خطة الحكومة لـ«تنويم المصريين» مغناطيسيًا أمام الشاشات الصغيرة
تدرك أجهزة الدولة جيدًا أن وسائل الإعلام المختلفة من جرائد ومجلات وقنوات تليفزيونية، كان لها دور كبير في صنع حالة من الغضب الشعبي ضد النظام السياسي في عهد الإخوان، وما تلى ذلك من احتجاجات وإزاحة الدكتور محمد مرسي من سدة الحكم في مصر، ولهذا يعمل النظام الحالي بقيادة الرئيس عبد الفتاح على عدم تكرار هذا السيناريو من خلال السيطرة على وسائل الإعلام، لاسيما الفضائيات الخاصة التي تحظى بنسبة مشاهدة عالية عن نظيرتها المملوكة للدولة.
الحديث السابق يفسره اهتمام «السيسي» نفسه بـ«الميديا»، وهو ما ظهر في أكثر من خطاب له، حيث قال في واحد من تلك الخطابات:«يا بخت عبد الناصر بإعلامه»، ثم عبارته:«المرة الجاية هشتكيكم للشعب»، عندما بدأت بعض الوسائل الإعلامية في نقد سياسات اقتصادية «ولكن على استحياء».
نفس الحديث ظهر عندما قال «السيسي»، يوم الثلاثاء الماضي:«إن الإعلام المصري لا يقدم الحقائق بشكل دقيق.. كما أنه لا يعكس الواقع في مصر»، وذلك في مقابلة مع «تشارلي روز»، بمحطة «بي.بي.إس» الأمريكية، على هامش زيارته لـ«نيويورك»؛ لحضور فعاليات الجمعية العامة لـ«الأمم المتحدة».
ورغم أن جميع المنابر المعارضة للنظام قد أُغلقت «بالضبة والمفتاح»، منذ اليوم الذي تحرك فيه الجيش للإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي، في 3 يوليو،2013، وعمله الدؤوب طوال تلك السنوات الثلاث على إقصاء جميع الإعلاميين الذين يُشتم فيهم شبهة خلاف في الرأي، من المشهد الإعلامي، حتى لم يعد أحد يستطيع أن يفرق بين الاعلام الحكومي والخاص، فكلاهما أصبح يهلل للرئيس، لدرجة أن العناوين في عدد من الصحف الخاصة والحزبية والقومية جاءت متطابقة تماما وكأن يد واحدة هي التي كتبتها.
لم تكن تلك الانتقادات التي وجهها السيسي لوسائل الإعلام «عابرة»، أو «عشوائية»، ولكن كان ضوءًا أخضر، والبدء في تدشين خطة على ما يبدو لـ«تأميم الإعلام» على طريقة عبد الناصر الذي استشاط بسبب انتقاد الإعلام له في بداية حكمه، معتبرًا أن دوره سلبي وأنه سيهدم الدولة، وقرر تأميم جميع الصحف وأغلق الإذاعات الأهلية، ولم يعد مسموحًا سوى بالصحف والإذاعات الرسمية التي تتم مراجعتها من أجهزته الأمنية «المخابرات وقتها»، والتي يرتكز دورها على تمجيد الحاكم وتنزيهه من كل نقيصة وإهانة معارضيه، والحط من قدرهم واستعداء الشعب عليهم.
بعض المراقبين رأوا أن هذا الأمر مجرد أمنية، لأن عصر السماوات المفتوحة لم يعد يمكن تأميم وسائل إعلامه، كما فعل «عبد الناصر»، ولأن التأميم بالطريقة التي قام بها «عبد الناصر» لم يعد ممكنًا، خاصة وأنه سيُظهر الحاكم بصورة ديكتاتور، فضلا عن أن الاعلام الرسمي الذي بحوذته لم يعد له تأثير أصلًا، فلا جدوى من ضم مزيد من القنوات لهذا الجهاز الكبير المترهل الذي لا يتابعه أحد ولا يؤثرفي أحد.
ولكن كانت الخطة في اتجاه آخر، ففي آخر عهد «مبارك»، سمح بالإعلام الخاص وبهامش من الحرية كان مساهما ولو بجزء يسير في إثارة الشارع ودفعه للثورة في يناير، وزاد هذا الهامش بشكل فوق كل الحدود حتى أصبح ينال من المجلس العسكري الحاكم بعد الثورة ثم من رئيس الجمهورية بعده محمد مرسي، وأصبح يحشد المواطنين للإطاحة به، بل ويستضيف جميع معارضيه حتى إن كانوا ممن يحملون السلاح «بلاك بلوك» مثالا، وبالفعل نجح فيما سعى له وصنع غطاءً شعبيا للإطاحة بمرسي.
انتبه السيسي لدور الإعلام الخاص الخطير فقرر إغلاق جميع المنابر المعارضة في يوم واحد وإبعاد معارضيه تباعا، ولكن مع اشتداد الأزمات تلو الأخرى ضاق النظام المصري ذرعا من الجميع حتى من الهامش المحدود للحرية الذي كان يتمتع به رجل مثل «ساويرس»، فقرر تأميم قناته على الطريقة الجديدة.
برز رجلان خلال تلك المرحلة ليكونا واجهة لعملية التأميم الكامل للإعلام وتحويله إلى إعلام للترفيه والتسلية ومشاهدة الأفلام والمباريات وبرامج المواهب الفنية على طريقة القنوات التي تملكها السعودية والإمارات، مثل «روتانا»، وشبكة «إم بي سي» بقنواتها المختلفة.
وكان أول هذين الرجلين، رجل الأعمال الشهير، أحمد أبو هشيمة، صاحب شركة «إعلام المصريين» الذي يبدو أنه أخذ الضوء الأخضر خلال شهور معدودة للسيطرة على عدد ضخم من المنابر الإعلامية، بدأها باستحواذه على جريدة «اليوم السابع»، ثم على كامل أسهم فضائية «أون تي في»، التي كان يملكها رجل الأعمال «نجيب ساويرس».
وأعلن بعدها عن مشروعات مستقبلية للشركة، سيتم افتتاحها تباعًا فى مجال التوسع فى إطلاق المحطات التليفزيونية، وشركات الدراما وإنتاج المسلسلات، فضلًا عن مشروعات أخرى على صعيد الإعلام الرقمى والبث التليفزيوني عبر الإنترنت من خلال مجموعة قنوات موجهة للشباب على الشبكة العالمية، بالإضافة إلى إطلاق محتوى إعلامى باللغة الإنجليزية.
وأسس مجموعة قنوات «أون» الجديدة، بدأها بـ«أون تي في» التي كانت موجودة في الأصل ومخصصة في المادة الإخبارية، ثم «أون لايف»، و«أون سبورت»، مؤخرًا، التي وفر لهم تمويلات وميزانيات ضخمة ومفتوحة، وسعى لشراء بطولة كأس الأمم الإفريقية، وغيرها من البطولات الأخرى حصريا لقناته.
كما اشترى «أبو هشيمة»، موقع «دوت مصر»، وترددت أنباء عن شرائه أسهم صحيفة «الشروق»، ثم سيطرته أخيرًا على «صوت الأمة»، وجريدة «عين» الفنية، اللتان كان يملكهما أحمد عصام إسماعيل فهمي، كما استحوذ على 50% من أسهم شركة «مصر للسينما»، المملوكة لرجل الأعمال «كامل أبو علي»، ونحو 51% من مجموعة «برزنتيشن» المتخصصة في الإعلان والدعاية، ليصبح بذلك متحكمًا بشكل غير مباشر في توجيه الرأي العام، وتشكيله من خلال تلك الوسائل والوسائط الإعلامية.
في نفس الأسبوع الذي انطلقت فيه قناه «أون سبورت»، ثالث أيام العيد، انطلقت قناة «دي إم سي سبورت»، وهي أولى قنوات مجموعة إعلامية جديدة يسيطر عليها رجل الأعمال طارق إسماعيل، «الرجل الثاني» الذي تعتد عليه الدولة في تنفيذ مخطط «إلهاء المصريين»، والذي تردد اسمه بقوه داخل الوسط الإعلامي، باعتباره مدعومًا من المخابرات الحربية.
امتلك «إسماعيل» عددًا من المنصات الإعلامية مثل راديو «90/90»، وموقع «مبتدا» الإخباري، وقد خصص ميزانية تصل إلى 80 مليون دولار؛ للإنفاق على فضائياته الجديدة التي سيكون من بينها قناة عامة، وأخرى للمنوعات والأفلام، وتركز الشبكة بالأساس على الترفيه، والبرامج الفنية والرياضية.
وفي 8 سبتمبر، أعلنت شركة «إعلام المصريين» التابعة لرجل الأعمال أحمد أبو هشيمة، ومجموعة «دي ميديا» الإعلامية D-media، المملوكة لـ«طارق إسماعيل»، الاندماج، لنصبح أمام كيان إعلامي يسيطر على السوق الإعلامي بالكامل ولا يسمح لأحد بالمنافسة فضلًا عن وجود ميزانيات مفتوحة لتنفيذ هذا المخطط.
بالتزامن مع هاتين المؤسستين الكبيرتين تبدأ خلال الأيام القادمة، قناة «العاصمة 2 » التي يمتلكها سعيد حساسين، الذي عُرف بنشاطه في العلاج بالأعشاب، وامتلك أسهم في قناة «الخليجية» الدينية، وكان السلفيون ضيوفًا دائمين على شاشتها، ولكن بعد «30 يونيو»، انقلب عليهم وأسس قناة «العاصمة» التي أصبحت مؤيدة للنظام بشكل مطلق، وأصبح عضوًا لمجلس النواب، ثم قرر إطلاق «العاصمة 2» ليلعب دورًا أكبر في مجال الاعلام المصري، في ضوء الخط المرسوم له وهو تمجيد النظام السياسي على طول الخط.
كل هذه القنوات التي انطلقت في توقيت متزامن تتبنى سياسة واحدة ووجهة نظر واحدة هي الخط الرسمي للدولة، وتعتمد في محتواها الإعلامي وبرامجها على التسلية والترفيه والإلهاء بالمقام الأول، دون التطرق للأمور التي تمس أزمات المصريين اليومة، وهدفها جعل المصريين في عالم مواز بعيدًا عن الواقع، ليتحول المواطن المصري أكثر فأكثر لشخص دون فكر أو ثقافة أو هوية، ويصبح مثله الأعلى، هو لاعب الكرة والفنان والراقصة.
وعن ذلك يقول ياسر عبد العزيز، الخبير الإعلامي، إن وجود وسائل إعلام مختلفة ومتنوعة يكون في صالح المشاهد والمجتمع والدولة بشكل عام، خاصة وأن كانت تضم كوادر وإمكانيات كبيرة، مشيرًا إلى أن هذا يتوافر في القنوات الجديدة ولكن بالشكل السلبي، فالتنوع هو تنوع زائف، لأنها قنوات كثيرة ومتعددة ولكنها تتبع رجل أعمال واحد وسياسة واحدة ورؤية واحدة.
وأضاف أن سعي رجال الأعمال مثل أبو هشيمة للاستحواذ على وسائل الإعلام القائمة هو نوع من التركز الضار للملكية، ونوع من الاحتكار وتكريس لنظرية «الصوت الواحد»، وهو ما يخصم من كفاءة وسائل الإعلام التي يملكها والتي استحوذ عليها وكانت ناجحة برؤيتها الخاصة وسياستها التحريرية.
ومن جانبه قال عماد مكاوي، عميد كلية الإعلام الأسبق، ووكيل المجلس الأعلى للصحافة، إن ملكية تلك القنوات الكثيرة لرجال أعمال محدودين تجعلهم يسيطرون على الإعلام المصري، وهو تكريس لوضع احتكاري وسيطرة لـ«حفنة» من رجال الأعمال على الرأي العام، وعلى اقتصاد الدولة؛ لأنهم سيوجهون تلك القنوات لخدمة مصالحهم.
وأضاف أن وجود مثل هذه الكيانات التي تحتكر منافذ الإعلام هو جريمة بكل المعايير، ومخطط للقضاء على الإعلام المصري وتنوعه ونوع من تحويل وسائل الإعلام إلى «أبواق إعلامية» في خدمة عدد محدود من رجال الأعمال.
وأشار إلى أنه على مدار أكثر من عام تم وضع قانون لتنظيم الإعلام يضمن وجود إعلام مهني ومحترم، ولكن تم تعطيل ذلك المشروع في مقابل السماح لتلك الكيانات بالسيطرة وسحب الإعلام لمربع الإلهاء والتغييب، بعيدًا عن الإعلام الذي يثقف المشاهد، ويجعله يكون وجهة نظر لما يجري من حوله.
وأضاف أن جهات غير معروفة تقود ذلك المخطط لمزيد من عدم الانضباط أو المهنية في الاعلام المصري ولصالح عدد محدود من رجال الأعمال.