بعد 17 عاما من الحرب معها .. سر الصراع بين «روسيا وأمريكا والصين وإيران» على كسب ود حركة «طالبان»
منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، والقوى الكبرى تهرول نحو الحوار مع حركة طالبان الأفغانية، التي كانوا يصنفونها حركة إرهابية، وذلك بعد مرور 17 عاما من الإطاحة بها من الحكم، على يد القوات الأمريكية.
سفير الصين لدى باكستان ياو جينغ، أكد، بأن بلاده اعترفت بحركة طالبان
"قوة سياسية"، على خلفية مشاركتها في عملية السلام بأفغانستان.
وقال جينغ، إن "بكين تعتبر طالبان قوة سياسية كونها أصبحت الآن جزءا
من العملية السياسية في أفغانستان، وبات لدى الحركة بعض الاهتمامات السياسية"،
بحسب ما نقلت صحيفة "دون" الباكستانية.
وأضاف السفير الصيني أن لدى بلاده اتصالات مع "الحكومة الأفغانية،
وحركة طالبان"، لافتا أن المبعوث الخاص لبكين، زار المكتب السياسي لطالبان في
العاصمة القطرية الدوحة.
وتابع: "الصين تدعم جميع الجهود الرامية إلى إحلال السلام في أفغانستان،
لأن الشعب الأفغاني يستحق السلام والاستقرار".
أمريكا
أما الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت ترفض الاعتراف بالحركة،
أو التفاوض معها، اضطرت الآن إلى عقد سلسلة من المحادثات معها، في عهد الرئيس
دونالد ترامب.
فقد التقى ممثلو طالبان وأمريكا
رسميا أربع مرات منذ يوليو الماضي، في كل من الدوحة وأبو ظبي، في محاولة للتوصل لتسوية للصراع المستمر منذ عام
2001.
وفي شهر ديسمبر الماضي، تم إجراء محادثات بين الولايات المتحدة،
برئاسة مبعوثها الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد، ومسئولين من حركة طالبان، في
العاصمة الإماراتية أبو ظبي، تركزت حول الإعداد لمفاوضات سلام في أفغانستان، ومستقبل
القوات الأجنبية، ووقف محتمل لإطلاق النار مدته ستة أشهر، ويشارك في هذه المباحثات
مسئولين من، قطر والإمارات والسعودية وباكستان.
وتصر حركة طالبان، التي أطاحت بها قوات بقيادة الولايات المتحدة من مقاعد
السلطة في 2001، أنه لا يمكن البدء في أي محادثات مع الحكومة الأفغانية، التي
تصفها بالعميلة، على خطة سلام إلا بعد إجراء مباحثات مع الولايات المتحدة بشأن انسحاب
القوات الأجنبية.
ويقول خبراء، إن حركة طالبان، التي تقاتل لإخراج القوات الأجنبية من أفغانستان
وتطبيق تفسيرها المتشدد للشريعة الإسلامية، تقاوم وقف إطلاق النار، إذ تعتقد أنه سيضر
بقضيتها ويساعد القوات الأمريكية والأفغانية.
وقد أعلنت حركة طالبان أمس الثلاثاء، أنها تواصل المباحثات التحضيرية
بشأن مفاوضات السلام مع الولايات المتحدة، على الرغم من الهجوم الذي نفذه مسلحون من
الحركة، وأسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص في قاعدة تابعة للاستخبارات الأفغانية.
روسيا وإيران
في سبتمبر الماضي أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن روسيا
تدعم الحوار بين حكومة أفغانستان و"طالبان" ويمكن إجراؤه أثناء منصة صيغة
موسكو.
وتابع الوزير الروسي "في رأيي صيغة موسكو والمشاركين فيها مناسب
بشكل مثالي للدعم الخارجي لحوار أفغاني شامل ومباشر وينبغي أن يشارك فيه، إلى جانب
الحكومة وحركة طالبان قوى سياسية بارزة أخرى
في البلاد".
وفي شهر سبتمبر الماضي، نظمت
روسيا، اجتماعاً دولياً حول أفغانستان بمشاركة وفد من حركة طالبان، دون تحقيق تقدم
يتيح بدء حوار مباشر بين الحركة والحكومة الأفغانية.
دراسة
في شهر فبراير 2017، كتب مصباح الله عبد الباقي: باحث في الشؤون الأفغانية
وأستاذ في جامعة سلام كابل، دراسة بعنوان « روسيا وإيران تتقاربان مع "طالبان":
الخلفيات والتداعيات»، قال فيها:
تناقش هذه الورقة تطورات علاقة "حركة طالبان" مع كل من روسيا
وإيران، وتبحث في أسباب كل طرف لتعزيز العلاقات، وتخلص إلى أن ذلك من شأنه أن يقوي
من موقع "طالبان"؛ لكنه سيُعقِّد الأوضاع في أفغانستان ويطيل أمد المواجهة
في بلد مزقته الحرب.
نشأت علاقات روسيا وإيران بحركة طالبان منذ عدة سنوات، وتوطدت خلال السنتين
الماضيتين، وخرجت إلى العلن رسميًّا بالاجتماع الثلاثي بموسكو يوم 27 من ديسمبر/كانون
الأول 2016م، ويبدو أن هذه العلاقات تجاوزت حدودها السياسة إلى تقديم المساعدات وفق
قيادات عسكرية أميركية وأفغانية، بررت روسيا وإيران علاقاتهما بحركة طالبان بضرورة
مواجهة خطر "تنظيم الدولة"، فضلاً عن السعي لتأمين مواطنيها وموظفيها والدبلوماسيين
الموجودين في أفغانستان من خطر هجمات حركة طالبان.
وترى وجهة نظر أخرى أن السبب الحقيقي وراء هذا التقارب هو مواجهة الولايات
المتحدة الأميركية، وهذا يفسر رغبة الحكومة الباكستانية في المشاركة في الاجتماع الثلاثي
بموسكو؛ إذ تعتبر أن القواعد الأميركية الدائمة في جوارها تهدد أمنها القومي، وبالنسبة
إلى حركة طالبان فهي تريد بذلك أن تكسر الحصار المضروب عليها من قِبَل واشنطن وحلفائها،
وأن تبحث عن بديل لباكستان لوقف الضغوط التي تمارسها استخباراتها العسكرية على الحركة.
وتخلص إلى أن ذلك من شأنه أن يقوي من موقع "طالبان" في الساحة الأفغانية؛
لكنه سيعقِّد الأوضاع في أفغانستان، ويطيل أمد المواجهة في بلد مزقته الحرب.
من يعرف طبيعة حركة طالبان ويُدرك العداء المستحكم بينها وبين إيران وروسيا،
سيستبعد قيام علاقة بينها؛ إلا أن السياسة لا تعرف العداوة الدائمة ولا الصداقة الدائمة،
ومع مقتضيات السياسية بدأت العلاقات بين إيران وطالبان منذ سنوات بمشاركة وفود من الحركة
طالبان في مؤتمرات الصحوة الإسلامية؛ التي تنعقد سنويًّا في طهران، وقد زارت وفود من
حركة طالبان من عام 2013م إلى عام 2015م أكثر من ثلاث مرات(1)؛ إلا أن هذه العلاقة
تطوَّرت خلال العامين الماضيين، عندما بدأت الوفود الرسمية من المكتب السياسي لحركة
طالبان في الدوحة بدولة قطر برئاسة محمد طيب آغا وقيادات رفيعة المستوى لحركة طالبان
تزور طهران، وكان من أهم تلك الزيارات زيارة وفد المكتب المذكور؛ الذي وصل إلى طهران
يوم الاثنين 18 من مايو/أيار 2015م(2).
وكانت أهم هذه الزيارات على الإطلاق زيارة
زعيم حركة طالبان السابق الملا أختر محمد منصور؛ حيث بقي لمدة شهرين في إيران قبيل
اغتياله من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية في هجوم لطائرة دون طيار يوم 21 من مايو/أيار
2016م داخل الأراضي الباكستانية قرب الحدود الإيرانية الأفغانية، وتقول المصادر الإيرانية:
إنه أجرى محادثات جادة مع الجهات السياسية والأمنية الإيرانية، وتوصَّل مع إيران إلى
اتفاق حول قضايا تهم الجانبين، وكان من أهم تلك القضايا الحفاظ على كيان حركة طالبان،
وعدم انضمام أفرادها إلى تنظيم الدولة "داعش"(3).
أما الصلات بين روسيا وحركة طالبان فقد بدأت في نهاية عام 2007م حسب تصريحات
بعض قيادات طالبان(4)، وتطورت العلاقات خلال العامين الماضيين أيضًا، إلى أن وصلت إلى
شبه اعتراف رسمي من قِبَل روسيا بتلك العلاقات خلال الاجتماع الثلاثي لمناقشة القضايا
المتعلقة بأفغانستان؛ الذي حضره ممثلو كل من روسيا والصين وباكستان يوم السبت 21 من
مايو/أيار 2016م، ويومها صرَّح "ضمير كابلوف" المبعوث الخاص للرئيس الروسي
فلادمير بوتين في حديثه لبعض وسائل الإعلام بأن روسيا تعترف رسميًّا بحركة طالبان تنظيمًا
مسلحًا سياسيًّا صادقًا(5). وتتحدَّث حركة طالبان في مواقعها الرسمية عن هذه العلاقات،
وتعتبرها اعترافًا رسميًّا من دول المنطقة(6).
لم تَعُدْ هذه العلاقات مجرَّد تسريبات وتحليلات تتحدَّث عنها وسائل الإعلام؛
بل صارت حقيقة يعترف بها جميع أطراف القضية، مما يطرح أسئلة كثيرة حول طبيعة العلاقة،
ستناقشها الورقة في إجابتها على الأسئلة التالية:
ما أبعاد هذه العلاقات وحدودها؟
هل هي مجرَّد تأييد سياسي، أم أنها علاقات تصل إلى حدود تقديم المساعدات
والتجهيزات العسكرية؟
تؤكد روسيا وإيران باستمرار أن علاقاتهما بحركة طالبان لا تتجاوز التأييد
السياسي، وأنها تهدف إلى تشجيع حركة طالبان على الجلوس إلى طاولة المحادثات، وعندما
نشرت تصريحات الناطق الرسمي باسم حركة طالبان في بعض وسائل الإعلام بخصوص المساعدات
الإيرانية العسكرية لحركة طالبان، بادر الناطق الرسمي باسم الخارجية الإيرانية إلى
تكذيبه بلهجة شديدة، وقال: إن ذلك كذب وافتراء، وإن الأمر مبيت طُرح من قِبَل حُماة
هذه المجموعة الإرهابية لتشويه سمعة إيران"(7).
على غرار إيران تقول روسيا: إن علاقاتها بحركة طالبان مقصورة على التأييد
السياسي كذلك. وتنكر أنها تساعدها على توفير السلاح والذخيرة والإمكانات، وتهدف هذه
العلاقات في نظرها إلى حثِّ الجهة المذكورة على الانضمام إلى محادثات السلام، كما صرح
بذلك السفير الروسي في كابل(8)، إلا أن الجهات الأميركية والأفغانية تقدِّم ما ينقض
الروايتين الإيرانية والروسية، وتقول: إن هذه العلاقات متطورة، وشملت القضايا الأمنية
والتسليحية. وصرح الجنرال جون نيكلسون القائد العام للقوات الأميركية أن روسيا وإيران
تساعدان حركة طالبان(9)، كما أكد عمر صافي الوالي السابق لولاية قندز في شمال أفغانستان
أن المساعدات العسكرية الروسية مكنت حركة طالبان من الاستيلاء على ولاية قندز مرتين
في العام المنصرم، وأضاف قائلاً: يتم ترميم الدبابات والسيارات التابعة للجيش الأفغاني
التي تستولي عليها طالبان بعد التعطل والعطب بمساعدة المهندسين الروس في طاجكستان،
ويتم إعادتها إلى طالبان، أو تتم مبادلتها بالأسحلة الثقيلة والخفيفة مساعدة لحركة
طالبان، هذا التعاون مستمر بصورة منظمة منذ سنتين(10)، كما أيد عبد الودود بيمان عضو
البرلمان الأفغاني من ولاية قندز مساعدات روسيا لحركة طالبان، وقال: عندما أجبرت القوات
الأفغانية مقاتلي حركة طالبان على الانسحاب على امتداد الحدود مع طاجكستان لم تمانع
القوات الحدودية الروسية من دخولهم إلى الأراضي الطاجيكية، وتؤكد شخصيات قيادية في
الحكومة الأفغانية قضية المساعدات الروسية النظامية لمقاتلي حركة طالبان(11).
لمرات عدة صرحت الجهات الأمنية الأفغانية أنها اكتشفت مخازن للذخيرة والسلاح
المصنوع في إيران في مناطق تابعة لحركة طالبان(12)، واتهم والي فراه المتاخمة للحدود
الإيرانية القادة الميدانيين لحركة طالبان يتلقون المساعدات والتموينات العسكرية من
إيران، وأن القوات الأفغانية استولت على الأسلحة الإيرانية من أيدي قوات طالبان، وأن
أُسَر هؤلاء القادة تعيش في إيران تحت رعاية الحكومة وحمايتها(13)؛ بينما خرجت تصريحات
متناقضة للناطق باسم حركة طالبان في وسائل إعلام إيرانية وسعودية(14)، ويبدو أن الرأي
القائل بوجود نوع من التعاون هو الأقرب إلى الحقيقة؛ لأن حركة طالبان لن تُقْدِم على
هذه العلاقة لمجرد الحصول على الدعم السياسي من روسيا أو إيران، حيث إن الدعم السياسي
المجرد لا يلبي حاجتها في هذه المرحلة.
مبررات التقارب بين طالبان وروسيا وإيران
لا تبدو العلاقة بين حركة طالبان من جهة وروسيا وإيران علاقة طبيعية،
فحركة طالبان حركة دينية سنية متشددة، وإيران دولة شيعية، ولا يمكن في الظروف العادية
أن تقبل إحداهما الأخرى مع وجود ثارات قديمة بينهما(15)، كما أن روسيا التي تعتبر وريثة
الاتحاد السوفيتي السابق التي قاتلها معظم أفراد حركة طالبان أثناء غزوه لأفغانستان،
لا يمكن أن تعترف بحركة طالبان في الظروف العادية، ولا يمكن لحركة طالبان أن ترضى بصداقتيهما
وتوطيد العلاقة بهما، إضافة إلى كل ما سبق تتمتَّع كل من روسيا وإيران بعلاقات قوية
مع الحكومة الأفغانية، فضلاً عمَّا تُثيره من غضب أميركي؛ مما يقتضي البحث عن مبرراتها
والأسباب التي تقف خلفها.
لا شك أن كل طرف من الأطراف المذكورة له أهدافه ومبرراته لإيجاد العلاقات
وتوطيد الصلات، وقد تكون بعض المبررات التي تُقَدَّم زائفة وغير حقيقية، وتُتداول للاستهلاك
الإعلامي فقط، وفي المجمل فإن المبررات والأسباب يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً: الخوف من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)
تبرِّر روسيا وإيران تقاربهما مع حركة طالبان بمحاربة تنظيم الدولة (داعش)،
والحد من نفوذه في أفغانستان؛ إذ تعدَّان تنظيم الدولة خطرًا على أمنيهما، يقول المبعوث
الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان ضمير كابلوف لتبرير علاقة حكومته بحركة طالبان:
"لقد أثار التنامي العددي لتنظيم الدولة (داعش) الإرهابي في أفغانستان مخاوف أمنية
جدية لروسيا، إن روسيا قلقة من وجود داعش في أفغانستان، وتعتقد أن نفوذه في أفغانستان
سيترك آثارًا طويلة الأمد على الجغرافيا السياسية والأمنية لروسيا". وأضاف قائلاً:
"إنه يوجد في أفغانستان حاليًّا حوالي 2500 شخص من مقاتلي تنظيم الدولة
"داعش"، وأنه في طور ازدياد نفوذه، وتطوير إمكاناته البشرية والمادية والحربية،
وإن لم يُوقف عند حدِّه فورًا سنواجه في المستقبل القريب أقوى قوة شبه نظامية في المنطقة،
والولايات المتحدة الأميركية هي المسؤولة سياسيًّا وأخلاقيًّا عما يحدث في أفغانستان،
فإنها لم تحل المشاكل السابقة، وأوجدت مشكلة جديدة"(16). كما أن إيران تعتبر تجهيز
مقاتلي طالبان في زعمها وسيلة لمقاومة خطر تنظيم الدولة "داعش" الذي يهدد
أمنها القومي(17).
تعتقد روسيا وإيران أن الفرق بين حركة طالبان وتنظيم الدولة أن الأولى
منظمة أفغانية نابعة من صلب المجتمع الأفغاني بأجندة محلية، وليست لديها أطماع عالمية،
أما الأخير فيهدف إقامة نظام عالمي (الخلافة) تحت قيادتها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا تساعد هذه الدول (الصين، وروسيا،
وإيران) الحكومة الأفغانية لدفع خطر تنظيم الدولة، مع أن الرئيس الأفغاني حاول أن يجلب
تعاطف هذه الدول لمحاربة الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة في أكثر من مناسبة؟
يعود ذلك في إلى أمرين؛ أولهما: أن الحكومة الأفغانية عاجزة -في نظر هذه
الدول- عن التصدِّي لتنظيم الدولة ودفع خطره، وثانيهما: أن الحكومة نفسها متهمة لدى
هذه الدول بمساعدة تنظيم الدولة وتقويته، وقد برزت أصوات عدة من داخل الحكومة تتهمها
بمساعدة التنظيم(18)، ويبدو أن روسيا وإيران قد قلبتا الطاولة على الرئيس الأفغاني،
الذي حاول في أكثر من مناسبة وعن طريق أكثر من منبر عالمي تخويف الدول المجاور بـ"تنظيم
الدولة" لجلب المساعدات، وبدل أن تساعد تلك الدول الحكومة الأفغانية اتجهت إلى
التقارب بينها وبين حركة طالبان.
ثانيًا: التوتر بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية
يبدو أن من أهم أسباب التقارب بين حركة طالبان وروسيا هو التوتر القائم
بين روسيا وأميركا، وعودة أجواء الحرب الباردة بينهما، وظهور تحالفات جديدة على المستوى
العالمي، تريد روسيا بإيجاد هذه العلاقات أن تكون بيدها وسيلة تمكِّنها من الضغط على
أميركا للانسحاب من أفغانستان؛ لأنها تَعُدُّ وجود قواعدها في أفغانستان تهديدًا لمصالحها
في آسيا الوسطى، وتشاطرها إيران الهدف نفسه، كما أن ورقة "طالبان" قد تساعدها
للضغط على الإدارة الأميركية في قضايا عالمية أو إقليمية أخرى، ويبدو من تصريحات ضمير
كابلوف المبعوث الخاص للرئيس الروسي أن هذا هو السبب الحقيقي وراء هذا التقارب، فإنه
يقول في حوار مطول له مع وكالة الأناضول التركية: لو أنشأت روسيا قواعد عسكرية في مكسيكو
لكان ذلك صعبًا على الولايات المتحدة الأميركية، نحن نعرف إلام تهدف واشنطن من استمرار
تواجدها العسكري في أفغانستان، وروسيا لن تسمح بتحقق أهدافها هذه. ويتابع: أُجبرت الولايات
المتحدة الأميركية على الانسحاب من إيران عام 1979م بالقوة، وتريد الآن أن تعود مرة
أخرى إلى المنطقة، وأن تكون لها فيها قواعد عسكرية، وتُعَدُّ أفغانستان خيارها الأفضل
لهذا الغرض. وأضاف كابلوف: كنا نبهنا أفغانستان أن توقيع الاتفاقية الأمنية مع أميركا
ستستتبع آثارًا خطرة؛ خاصة إذا حاولت أميركا أن تستخدم هذه القواعد ضد مصالحنا الوطنية"(19).
كانت روسيا تصر على استبقاء القوات الأميركية في أفغانستان بعد عام
2014م على خلاف تصريحات كابلوف المذكورة، وقد اقترحت على أميركا استصدار قرار من مجلس
الأمن إن امتنع كرزي من توقيع الاتفاقية الأمنية معها(20)، إلا أن موقفها تغير تمامًا
بعد ظهور تنظيم الدولة وانتشاره في أفغانستان، ويبدو أن السبب في هذا التحول هو أن
روسيا تحاول أن تستفيد من مشجب التنظيم، وتظهر للعالم أن "تنظيم الدولة"
اسْتُحدث في أفغانستان بمباركة أميركية، وبمساعدة بعض الجهات الأمنية الأفغانية لأغراض
منها: المساس بالمصالح الروسية في آسيا الوسطى لتجد لنفسها موطئ قدم في القضية الأفغانية
لتستفيد بها كورقة ضغط في المشاكل التي تظهر من وقت لآخر بين روسيا وأميركا، وتُعَلِّق
روسيا هذا التحوُّل في الموقف الآن على توقيع الاتفاقية الأمنية مع أميركا كما صرح
بذلك ضمير كابلوف في حواره مع وكالة الأناضول التركية.
وتعتقد القيادات العسكرية الأميركية أن التواجد الأميركي في أفغانستان
وقواعدها الدائمة فيها هو السبب للتقارب بين روسيا وإيران وحركة طالبان، يقول الجنرال
جون نيكلسون القائد العام للقوات الأميركية في أفغانستان: "إن ذِكْرَ "داعش"
في هذا السياق ليس إلا عمودًا من الدخان لتبرير سياسات موسكو العدائية تجاه أميركا".
وأضاف قائلاً: "يبدو من هذه التبريرات كأن طالبان يحاربون "داعش" ولا
يحاربون الحكومة الأفغانية!"(21).
صرح بعض قيادات حركة طالبان لوسائل الإعلام بأن الهدف من التقارب مع روسيا
هو مواجهة الولايات المتحدة الأميركية بوصفها العدو المشترك، وأن مواجهة تنظيم الدولة
ليس هدفًا، يقول أحد قيادات طالبان: "لما بدأت روسيا مساعدة حركة طالبان في بدايات
عام 2008م لم يكن لداعش أي أثر في العالم!" وأضاف قائلاً: "هدفنا الوحيد
من كل ذلك تقويتنا ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها". وقال:"لدينا
عدو مشترك"، و"كنا بحاجة للمساعدة لنتمكن من التخلص من شر أميركا وحلفائها
في أفغانستان، وروسيا كذلك تريد أن تغادر القوات الأجنبية أفغانستان في أسرع وقت ممكن"(22).
ويبدو أن روسيا تحاول إحياء دور الاتحاد السوفيتي السابق في المنطقة، ومن هنا شجع ضمير
كابلوف الإدارة الأميركية الجديدة باتخاذ سياسات مناسبة ومتينة بخصوص أفغانستان واعتبر
مطالبة حركة طالبان بسحب القوات الأميركية من أفغانستان مطالبة صحيحة(23).
ثالثًا: التنافس بين إيران والسعودية في المنطقة
من أهم أسباب التقارب بين طالبان وإيران
التنافس الموجود بين إيران والسعودية، فإيران تعتقد أن تنظيم الدولة بخلفيته السلفية
يمكن أن يكون وسيلة بيد السعودية لتهديد المصالح الإيرانية في أفغانستان، ومن هنا تقاربت
مع حركة طالبان للحفاظ على مصالحها للحيلولة دون نفوذ التنظيم، وأرادت إيران عن طريق
إعلان علاقاتها بحركة طالبان للضغط على الحكومة الأفغانية بعد أن أيدت التحالف ضد الحوثيين
في اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية، ولم ترد أن تستخدم ورقة الشيعة في ذلك؛
لئلا تتضرر مصالحها في أفغانستان، فضلاً عن أطماع إيران في العالم الإسلامي، وسعيها
للمحافظة على مصالحها عن طريق هذه العلاقات.
رابعًا: أمن تلك الدول ورعاياها ودبلوماسييها
ترى هذه الدول أنها على اتصال بحركة طالبان لدفع المشاكل الأمنية، التي
يمكن أن تتعرض لها تلك الدول ورعاياها ودبلوماسييها داخل الأراضي الأفغانية التي تسيطر
على مناطق شاسعة منها حركة طالبان، وتعلل ذلك بأنها ليست وحدها في اتخاذ مثل هذا الإجراء،
فمكاتب الأمم المتحدة في أفغانستان -حسب ادعاء مكتب طالبان في قطر- على اتصال دائم
بالمكتب المذكور لتأمين موظفيها في أفغانستان، ولأجل الحفاظ على هذه الصلات سافر (نيكولاس
هيسم) إلى الدوحة للقاء ممثلي حركة طالبان لإظهار امتنانه في نهاية عمله في أفغانستان
ممثلًا للأمم المتحدة(24)، كما أن إيران تمكَّنت من خلال علاقاتها بحركة طالبان أن
تمنع التعاون بين حركة طالبان والمعارضة البلوشية المسلحة في إيران المتمثلة في
"جند الله".
تعتبر إيران نفسها وكيلة الشيعة في أفغانستان، وأن علاقتها بحركة طالبان
تنعكس إيجابًا وسلبًا على علاقة طالبان بالشيعة في أفغانستان، وبفضل علاقاتها المتميزة
بها لم يحدث في الخمس عشرة سنة الماضية أي هجوم على أي تجمُّع للشيعة في أفغانستان
من قِبَل طالبان، وبعد ظهور داعش في أقل من سنتين حدثت عدة حوادث دموية؛ منها: تفجير
في كابل في منطقة كارته سخي يوم 11 من أكتوبر/تشرين الأول 2015م، وتفجير في تجمُّع
للشيعة يوم 23 من يونيو/حزيران 2015م، وهجمات في أيام عاشوراء خلال عام 2016 في كابل
ومزار شريف، وتبنَّى تنظيم الدولة كل الحوادث المذكورة، وهذا ما أثار قلق إيران، وأدَّى
إلى توطيد العلاقة بينها وبين طالبان.
خامسًا: مبررات حركة طالبان
تريد حركة طالبان بإيجاد هذه العلاقات أن تكسر الحصار المضروب عليها من
قِبَل واشنطن وحلفائها، وتُنهي عزلتها السياسية، وتكسب اعتراف دول المنطقة، وتثبت وجودها
قوة سياسية وعسكرية معتدلة، كما أنها تريد أن تخرج بذلك من الوصاية الباكستانية التي
تريد أن تجيرها لمصالحها، كما أنها بحاجة إلى المساعدات العسكرية والتسليح والذخيرة
والمساعدات المالية في الحرب التي تخوضها في أفغانستان، وكل ذلك لا يمكن إلا عن طريق
إيجاد العلاقات بدول المنطقة والقوى الإقليمية والعالمية.
أسباب التنافر بين باكستان وحركة طالبان
لا يمكن لحركة طالبان أن تستعيض بعلاقاتها بروسيا وإيران عن علاقاتها
بباكستان؛ لأن تواجد حركة طالبان وتحرك قياداتها وأفرادها داخل الأراضي الباكستانية
وعبر الحدود الأفغانية الباكستانية أمر مألوف؛ وسكان المناطق الحدودية بين البلدين
ينحدرون من عرقية واحدة، وينتمون لثقافة واحدة ولغة مشتركة؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه
هو: لماذا تبحث حركة طالبان عن حلفاء جدد؟ ولماذا تصر على توطيد العلاقة بإيران وروسيا؟
لا شك أن حركة طالبان تُدرك أن علاقتها بإيران وروسيا أو بأية دولة أخرى
لا يمكن أن تكون بديلة لعلاقتها بباكستان؛ لكنها تُدرك كذلك أن تلك العلاقات تستطيع
أن توفر متنفسًا لحركة طالبان أمام الضغوط التي تتعرَّض لها من قِبَل باكستان. حاولت
باكستان باستمرار خلال الخمسة عشر عامًا الماضية أن تجعل الحركة خاضعة لقرارها، وأن
تقدم قياداتها وأفرادها هدية لأميركا كلما تعرضت للضغوط من قبلها، كما حاولت أن تستفيد
من حركة طالبان كورقة ضغط على الحكومة الأفغانية للوصول إلى أهدافها وللحصول على مصالحها،
وكلما طالبتها الحكومة الأفغانية أن تساعدها على حل القضية الأفغانية عن طريق إجبار
حركة طالبان على الجلوس على طاولة المحادثات قدمت مصالحها واشترطت شروطها وقدمت طالبان
كبشًا للفداء، وكان من أهم تلك الشروط القبول بـ"خط ديورند" حدودًا دولية
بين البلدين، والحد من نفوذ الهند في أفغانستان.
يقول أمر الله صالح رئيس الاستخبارات الأفغانية السابق: إنه كان يرافق
الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في سفر من أسفاره في ربيع عام 2010م عندما طالب قائد الجيش
الباكستان حينذاك الجنرال إشفاق برويز كياني بالتوقف عن مساعدة حركة طالبان، فقال له
الجنرال كياني: "لدي اقتراح وهو أننا (أفغانستان وباكستان) إن تمكننا من إيجاد
إطار استراتيجي للعلاقات بيننا، واتفقنا عليه لن يبقى لحركة طالبان على الساحة وجود
كقوة، وإن بقيت فلن تبقى ذات تأثير في الأوضاع"(25). وكان الجنرال الباكستاني
واضحًا أن باكستان مستعدة للتضحية بطالبان، وهذا ليس حال لقاء واحد، بل كانت أغلب اللقاءات
بين قيادات البلدين يحمل الطابع نفسه، إلى جانب ذلك كلما حاولت حركة طالبان أن تستقل
بقرارها وتخرج من قبضة الحكومة الباكستانية بعد أن تعرضت لضغوط شديدة، ولتضيقات أمنية
واعتقالات، حتى التصفيات الجسدية، وقد تعرض عدد كبير من قياداتها نتيجة قرار وجود المكتب
السياسي لها في قطر للاعتقال والتضييق الأمني، منهم الملا عبيد الله، والملا برادر،
والأستاذ محمد ياسر وغيرهم، قد قُتل بعضهم في المعتقلات نتيجة التعذيب، هذا ما أجبر
حركة طالبان على أن تبحث لنفسها عن متنفس آخر عن طريق توطيد علاقاتها بدول المنطقة
والقوى الإقليمية والعالمية.
من ناحية أخرى خسرت طالبان داخل مجتمعها كثيرًا جراء ربطها بالاستخبارات
الباكستانية العسكرية، واتهامها بالعمالة لها في وسائل الإعلام، فحاولت عن طريق إيجاد
هذه العلاقات أن تخرج عن دائرة هذه الاتهامات كذلك.
سيناريوهات العلاقة وأثرها على أفغانستان
لا شك أن توطيد علاقات روسيا وإيران بحركة طالبان ستؤثر على الأوضاع في
المنطقة، كما أنها ستؤثر حتمًا على الوضع في أفغانستان، ويمكن تلخيص هذه التأثيرات
على النحو التالي:
أولاً: يبدو أن العلاقات بين روسيا وطالبان نتيجة طبيعية لأجواء الحرب
الباردة؛ التي تعود إلى الساحة مرة أخرى، ويبدو أن التوتر بين روسيا وأميركا سيزداد
في القضايا العالمية وعلى مستوى المنطقة، وتَكُون أفغانستان مرة أخرى ميدانًا لهذه
الحرب الباردة؛ لكن الحلفاء ستتغير هذه المرة، فإن الهند التي كانت حليفة روسيا الدائمة،
وكانت مواقفها عن أفغانستان بقيت طوال التاريخ المعاصر متوافقة مع مواقف روسيا، تقف
هذه المرة في الصف الأميركي، وباكستان الحليفة التاريخية لأميركا تقف هذه المرة مع
روسيا والصين.
ثانيًا: ستدخل الحرب في أفغانستان إلى مرحلة جديدة بالتدخل الروسي والإيراني
المباشر فيها، وسيزداد الوضع تعقيدًا؛ فإذا كان تنظيم الدولة "داعش" قد وُجد
في هذه المنطقة لأغراض معينة وللمساس بالمصالح الروسية والإيرانية كما تدعي روسيا وإيران،
فإنه سيجد ممولين لحربه، وسيزداد قوة بمرور الزمن، وستجد طالبان ممولين جددًا لمهامها
الحربية الجديدة أيضًا، وهذا لا يعني إلا إطالة أمد الحرب واستمرارها في أفغانستان،
كما أن روسيا تحاول أن تدخل على الخط في القضية الأفغانية لتصفية حساباتها السابقة
مع الولايات المتحدة الأميركية. وقد تهدف من التدخل في القضية الأفغانية عن طريق تقديم
المساعدات لأحد أطراف المشكلة إلى امتلاك ورقة ضغط على واشنطن في مشاكلها الدولية معها،
وكل ذلك سيؤدي إلى زيادة الفاعلين في القضية الأفغانية، وكلما زاد اللاعبون تعقدت القضية،
وبعُد الحل السلمي للقضية، كان ذلك سببًا للمزيد من الدمار، وسببًا لجر مزيد من ويلات
الحرب على الشعب الأفغاني.
ثالثًا: ستقوى حركة طالبان بعد وقوف دولتين قويتين في المنطقة (روسيا
وإيران) بجانبها؛ لأنها ستخرج بذلك من كونها منظمة إرهابية تقاتل القوات الأميركية
وحلفائها إلى قوة سياسية معترف بها من قِبَل دول ذات عضوية دائمة في مجلس الأمن للأمم
المتحدة، وقد يكون ذلك سببًا في تأخير المحادثات بين الجهات الأفغانية؛ لأن تاريخ المعضلة
الأفغانية يؤكد أن الجهات المتخاصمة لا تقبل المحادثات وهي في حالة القوة، وأن قراراتها
ستكون متأثرة بمصالح الحلفاء الجدد.
رابعًا: سيؤثر ذلك سلبًا على سمعة الحركة؛ التي تبرِّر المواجهة أمام
مجتمعها باسم "الجهاد"، وستطرح أسئلة كثيرة حول شرعية الجهاد القائم على
المساعدات الروسية والإيرانية؛ وهما طرفان لا يتمتعان بسمعة جيدة داخل صفوف مقاتلي
حركة طالبان.
خامسًا: ستوفر هذه العلاقات لحركة طالبان متنفَّسًا يُمَكِّنها من إيجاد
البديل للمساعدات الباكستانية، وستتمكن بذلك من وضع حدٍّ للابتزازات التي كانت تتعرَّض
لها على يد الاستخبارات الباكستانية.
خلاصة القول: إن العلاقات الروسية الإيرانية بحركة طالبان حقيقة ولها
أسبابها وآثارها، وإن كان لكل طرف مبرراته التي تدفعه إلى المضي فيها وتوطيدها، إلا
أن هذه العلاقات بالتأكيد ستعقّد القضية الأفغانية، وستكون سببًا في إطالة أمد الحرب،
وستجعل أفغانستان مرة أخرى ميدانًا للحرب بالنيابة ومن نوع آخر.