رئيس التحرير
خالد مهران

الأيدلوجيات تخيم على الحقائق

"انهيار" الاقتصاد الصيني بين الواقع والخيال

النبأ

 
يبدو الآن لا صوت يعلو فوق صوت الركود العالمي. تتعامل منطقة اليورو مع ركود، وتكافح بريطانيا في ظل تأثير كارثي لخروجها من الاتحاد الأوروبي، ومازالت اليابان تحافظ على ركود وانكماش مستمرين، ورغم الأرقام الإيجابية التي ترد أحيانا من الولايات المتحدة، إلا أن اقتصادها يواجه مخاطر الركود أيضا.
لكن، على هذه الخلفية الكئيبة، ترسم تقارير إعلامية غربية صورة أكثر كآبة للاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم.  ومن صحف الايكونوميست وذا هيل ولوموندو إلى واشنطن بوست ونيوزويك وغيرها من وسائل الاعلام الغربية الرصينة، تتنوع العناوين  التشاؤمية تجاه الصين واقتصادها ويختلط الواقع بالخيال. 
ومن الحديث عن "ذروة الصين؟" و"الانهيار الاقتصادي في الصين" و"الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في الصين"، و" شنغهاي تتحول إلى مدينة أشباح"، تجلت سياسة إشاعة الخوف والفزع، وخيمت الأيدلوحيات على الحقائق، في حرب اتخذت "المعلومات" ساحة لها.
إلى الوراء، منذ بداية العام، عندما رفعت الصين تدابير الوقاية والسيطرة على فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19) وبدأت في إعادة فتح اقتصادها، حذر مراقبون من أن ثاني أكبر اقتصاد في العالم سيصبح "تهديدا للتضخم العالمي". وبعد مرور الربع الأول من العام، قلب النقاد روايتهم السابقة رأسا على عقب بعد ثبات معدل التضخم الصيني في يونيو، وعادوا برواية جديدة تقول إن الصين تواجه انكماشا وشيكا.
لكن الأرقام أثبتت ان التضخم لم يزد بل ثبتت مستويات الأسعار في الصين، وأن هذا الانكماش لم يتم تصديره على نحو أو آخر إلى مختلف أنحاء العالم. وفي واقع الأمر، لم تكن الشروط المسبقة للانكماش موجودة رغم الرياح الدولية المعاكسة،  بل تعزز انتعاش الصين في النصف الأول ومن المرجح أن يتعزز أكثر في الربع الأخير من العام.
--الاحصاءات تتكلم
في النصف الأول من العام، نما الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة 5.5 بالمائة، وهو الأسرع بين الاقتصادات الكبرى. وقدر صندوق النقد الدولي في يوليو معدل نمو الصين عام 2023 بنسبة 5.2 بالمائة، فيما توقع أن يصل النمو العالمي إلى 3.0 بالمائة، والنمو في الولايات المتحدة إلى 1.8 بالمائة.
وأظهرت أحدث البيانات ارتفاع الناتج الصناعي ذي القيمة المضافة في الصين، وهو مؤشر اقتصادي مهم، بنسبة 4.5 في المائة على أساس سنوي في أغسطس. وبلغ الرقم الخاص بمؤشر إنتاج الخدمات 6.8 بالمائة، أي أسرع بمقدار 1.1 نقطة مئوية عن الشهر الماضي. وعلى جانب الطلب، فاقت مبيعات التجزئة، وهي المقياس الرئيسي للاستهلاك، التوقعات بعد ذروة السفر في الصيف وإجراءات تعزيز الاستهلاك.
ويتوقع المحللون في الأرباع المقبلة أن يتعزز الانتعاش بشكل أكبر بفضل اجراءات التحفيز، بما في ذلك زيادة الإعفاءات الضريبية. وتشير الدلائل المبكرة إلى أن انتعاش الاستهلاك سوف يتسارع خلال عطلة العيد الوطني المقبلة في اكتوبر المقبل.
الاقتصاد الصيني يمضى في طريقه أو على الأقل تعمل الحكومة لوضعه على مساره الصحيح. وفي أوائل سبتمبر، أنشأت الصين مكتبا تابعا لأعلى جهاز تخطيط اقتصادي في البلاد مهمته تعزيز تنمية اقتصاد القطاع الخاص. وجاء ذلك في أعقاب مجموعة من السياسات الرامية إلى تعزيز نمو هذا القطاع. 
--آفاق نمو واعدة وسط تحديات
يعتقد هنا بشكل واسع أن الصين لا تزال تتمتع بمستقبل واعد من النمو على المدى الطويل. وتظهر المزيد من الدلائل انتعاش الاقتصاد الصيني. فالسياحة الداخلية تنتعش على نطاق واسع. ولا تزال مبيعات السيارات الكهربائية في الصين مرتفعة. وقد أعلنت شركة علي بابا عودتها إلى نمو قوي في المبيعات في نتائج الربع الثاني.
وقد شهدت الأشهر السبعة الأولى من هذا العام ارتفاعا في الاستثمارات الصينية في صناعات التكنولوجيا الفائقة بنسبة 11.5 في المائة مقارنة بالعام الماضي، وهو ما يزيد بشكل ملحوظ عن نمو استثماراتها الإجمالية. وفي يوليو، نما إنتاج الخلايا الشمسية ومنتجات مركبات الطاقة الجديدة بنسبة 65.1 في المائة و24.9 في المائة على التوالي.
وسط هذه المؤشرات الايجابية، لا تزال هناك تحديات داخلية. وتظل القضية الرئيسية للتعافي المحلي تتمثل في سوق العقارات المتعثرة. ويأمل صناع السياسات في استعادة ثقة المستهلك في هذا القطاع من خلال خفض نسبة الدفعة الأولى وتحديد سقف لمعدلات الرهن العقاري الجديدة. وهذه خطوات يعتبرها مراقبون جيدة ولكن ليست كافية، فهناك المزيد الذي يتعين القيام به لتحقيق الاستقرار في هذا القطاع.
وتوجد قناعات بأن هناك حاجة إلى سياسات مالية داعمة، وكذلك إلى موقف نقدي متكيف. وفي يوم الجمعة، أبقى بنك الشعب الصيني، البنك المركزي في البلاد، سعر الفائدة دون تغيير لكنه عزز السيولة من خلال الإقراض متوسط الأجل.
وقال البعض من النقاد إن هذا غير كاف، ومع ذلك يمكن للبنك المركزي تأخير تخفيضات أسعار الفائدة بسبب الاستثمارات الاستراتيجية في الاقتصاد الجديد، بما في ذلك الإلكترونيات والبرمجيات، والبنية التحتية للكهرباء والسكك الحديدية، وزيادة مدخلات رأس المال لشركات السيارات في السيارات الكهربائية التي تزدهر مبيعاتها.
إن نمو الاقتصاد الصيني لا يزال مستمرا أيضا رغم التحديات الجيوسياسية والمحاولات الأمريكية لعرقلة صعود الصين باسم حماية الأمن القومي الأمريكي، والعوائق التي تضعها واشنطن أمام تصدير التكنولوجيا الفائقة وتقليل اعتماد حلفائها على الصين باسم إزالة المخاطر. تحقيق هذا النمو وسط كل هذا يراه مراقبون مثير للاعجاب ويتحدى المشككين في قدرات الاقتصاد الصيني ومحركاته الجديدة، التي تثبت إنه لا يزال يتمتع بالمرونة وامكانات كبيرة للنمو.