«بيزنس» ترميم المقابر..
بالمستندات.. تفاصيل استثمار الحكومة فى «بيوت الموتى» لصالح «جيوب الكبار»
يُعد ملف «المقابر» من الملفات الشائكة التي شهدت جدلًا كبيرا، خلال الأيام الأخيرة، على جميع المستويات، سواء الشعبية أو التشريعية أو التنفيذية، خاصة بعد الاتجاه لهدم بعض المقابر ونقل الرفات إلى مناطق أخرى.
فعلى المستوى التشريعي، كانت «معركة الجبانات» هي الأشرس تحت قبة مجلس النواب، حيث طالب عدد كبير من أعضاء مجلس النواب بتعديل بعض أحكام قانون الجبانات، ووافقت لجنة الإدارة المحلية بالمجلس برئاسة النائب أحمد السجيني من حيث المبدأ على مشروع القانون المقدم من النائب محمد جبريل و60 نائبًا آخرين بتعديل بعض أحكام القانون رقم 5 لسنة 1966 بشأن الجبانات.
وبناء على الدعوة الموجهة من «محلية النواب» يشارك في مناقشات تعديل «قانون الجبانات» 5 وزارات هي «الصحة والسكان، والبيئة، والمالية، والثقافة، والعدل»، إلى بجانب مشيخة الأزهر والكنيسة والجهات التنفيذية بالدولة، وذلك من أجل عرض رؤيتهم حول تعديل القانون.
ويهدف مشروع تعديل قانون «الجبانات» إلى مسايرة التغييرات الاجتماعية والصحية والقانونية التي طرأت على المجتمع المصري وأصبح لزامًا أن تمتد التعديلات إلى هذا القانون لتنظيم الاختصاصات، من حيث إنشاء وصيانة وإلغاء الجبانات وتعديل الرسوم المقررة بما يتناسب مع تغيرات المجتمع الحالية، وتشديد العقوبات على من تسول له نفسه الاستيلاء على مقابر الغير، أو نبش المقابر بغرض إخفاء جرم وحوكمة التصرف في الجبانات حتى تكون للدولة اليد العليا في هذا الشأن، وتغير السلطة المختصة بإدارة الجبانات وتعظيم دور وزارة التنمية المحلية.
وفي الوقت الذي يسعى فيه مجلس النواب إلى تعديل قانون الجبانات بما يتواكب مع تطورات العصر، اتخذت عدد من الإدارات المحلية بالمحافظات طريقًا صعبًا على المواطنين في الأمور المتعلقة بترميم المقابر، وفرضت رسومًا خيالية ليتحول الأمر من مسألة تكريم للموتى إلى بيزنس واستثمار في «بيوت الموتى».
ففي محافظة بورسعيد، أحال المحافظ عادل الغضبان، ما يسمى بمشروع اللائحة الإدارية والمالية للجبانات إلى مستشاره القانوني لشئون الاستثمار، لاستكمال الإجراءات اللازمة لإصدارها وتنفيذ ما بها من رسوم خيالية مفروضة على ترميم المقابر وإنشائها.
«اللائحة الإدارية والمالية للجبانات» التي أحالها محافظ بورسعيد لمستشاره القانوني لشئون الاستثمار تبدو في ظاهرها الرحمة بأهالي بورسعيد وتقديم خدمة حقيقية لهم من خلال وضع نظام إداري ومالي يحكم تنظيم وأمن ونظافة الجبانات، وميكنة كل ما يخصها من بيانات، وبسط سيطرة المحافظة عليها ومنع المتاجرة فيها، والحفاظ على حرمة الأموات.
لكن على الجانب الآخر، كان في باطنها العذاب في ظل فرضها رسومًا على ترميم المقابر تصل إلى 5800 جنيه، مع فرض رسوم أخرى على أي إفادة تتطلب للمقبرة تقدر بمبلغ 1500 جنيه للورقة الواحدة، وتتضاعف الرسوم لتصل لنحو 15 ألف جنيه في حالة هدم وبناء المدفن من جديد، والمفاجأة أن يتم صرف نسبة كبيرة من الرسوم المحصلة كمكافآت للعاملين والقيادات الإشرافية.
وتنوعت الرسوم التي يتم فرضها على ترميم المقابر في بورسعيد، حيث بلغت رسوم قيمة استمارة تقديم طلب الترميم 100 جنيه، وقيمة رسوم فحص طلبات الترميم 200 جنيه، وقيمة رسوم المعاينات على الطبيعة للترميم 500 جنيه، ورسوم تأمين إزالة المخلفات 1500 جنيه، وقيمة رسوم إصدار تصاريح البناء أو الترميم أو الحصول على صورة طبق الأصل أو استخراج بدل فاقد أو تالف 1500 جنيه.
كما يتم، أيضًا، تحصيل الرسوم الأخرى والمبالغ التي يتم تحصيلها من المواطنين نظير طلب خدمة من إدارة الجبانات بالمحافظة، بخلاف تحصيل التبرعات والإعانات المقدمة لغرض تحسين الجبانات، بالإضافة إلى الرسوم التي تحصل من مقاولي الهدم والبناء والترميم والتي تتمثل في مبلغ 1000 جنيه من مقاول الترميم للمقبرة حتى مقاس (3*3)، ومبلغ 2000 جنيه لأكثر من ذلك، و5 آلاف جنيه للمدفن، وتتضاعف المبالغ السابقة بالنسبة للهدم والبناء.
المفاجأة أن تلك الرسوم التي يتم تحصيلها من ترميم المقابر في بورسعيد تودع في صندوقًا خاصًا يسمى «صندوق الجبانات»، ويتم صرف جزء كبير من تلك الرسوم تحت بند ما يسمى بشراء كافة الاحتياجات اللازمة لسرعة إنجاز العمل بإدارة الجبانات من أجهزة ومعدات هندسية وأدوات كتابية وسيارات، كما يتم صرف نسبة 30% شهريًا من حصيلة كافة الموارد على الحوافز وبدل الجهود الإضافية الشهرية للعاملين بإدارة الجبانات، حيث يتم توزيع نسبة الـ30% على النحو التالي: 75% من نسبة الـ30% تصرف كحوافز وبدل جهود إضافية شهريًا للعاملين بإدارة الجبانات ورؤسائهم المباشرين والقيادات الإشرافية المتابعة لأعمالهم، و25% باقي حصيلة الـ30% تصرف كحوافز للأجهزة المعاونة لإدارة الجبانات في أعمالها.
ونظرًا لضخامة رسوم ترميم المقابر في بورسعيد، سبق وأن تقدم النائب أحمد فرغلي، عضو مجلس النواب، إلى الدكتور حنفي جبالي رئيس مجلس النواب، بطلب إحاطة إلى كل من رئيس مجلس الوزراء، ووزير التنمية المحلية، بشأن قيام محافظ بورسعيد بعرض لائحة بفرض رسوم على ترميم المقابر وإحالة مشروع اللائحة على مستشاره القانون لشئون الاستثمار، مما يثير الريبة في صدور مواطني بورسعيد بتحويل الملف إلى مسألة استثمار، بجانب فرض رسوم مبالغ فيها على أي إفادة يتم طلب مستخرج منها مثل إصدار تصريح للبناء أو الترميم أو صورة طبق الأصل أو بدل فاقد أو تالف لأي مستند بالملف بمبلغ 1500 جنيه، كما أنه يتم فرض رسوم لترميم المقبرة تصل إلى 5800 جنيه وما يقرب من 15 ألفا في حالة الهدم والبناء، فضلًا عن صرف حوافز بنسبة 30% من حصيلة الموارد للعاملين، توجه نسبة 75% من الحصيلة إلى القيادات الإشرافية دون تحديد من هم القيادات.
الأمر لا يختلف كثيرًا في محافظة الجيزة، حيث تم وضع لائحة إدارية ومالية لمشروع الجبانات، يتم من خلالها التحكم في كل ما يتعلق بالمدافن، وإيداع حصيلة موارد المشروع في حساب خاص تحت مسمى «حساب الخدمات والتنمية المحلية بالمحافظة»، حيث يستقبل هذا الحساب «قيمة رسوم تقديم الطلب، وقيمة رسوم معاينة الطلب، وقيمة مقابل حق الانتفاع، وجميع مبالغ التأمين المصادرة، وقيمة أقساط المدافن المحصلة من المواطنين، وقيمة رسوم الحصول على بدل فاقد أو رسوم التنازل، وكافة الرسوم الأخرى، وجميع المبالغ المالية التي يتم تحصيلها من المواطنين نظير طلب خدمة من إدارة الجبانات بالمحافظة».
وبالرغم من الحصيلة الكبيرة لموارد مشروع الجبانات بالجيزة، إلا أن تلك الحصيلة تذهب معظمها لجيوب مجلس إدارة المشروع، حيث يتم صرف بدل حضور جلسات مجلس الإدارة لكل عضو بواقع 300 جنيه عن كل جلسة، وكل عضو من اللجنة الفنية 200 جنيه عن كل جلسة، وباقي اللجان يتم صرف بدل حضور جلسات بعد موافقة مجلس الإدارة.
كما يتم صرف مبالغ كبير من موارد المشروع على حوافز شهرية للعاملين بإدارة الجبانات والأجهزة المعاونة، فبالنسبة للعاملين بإدارة الجبانات يتم صرف 250 كحد أدنى و3000 جنيه كحد أقصى لمدير إدارة الجبانات، وصرف 2000 جنيه كحد أدنى و2500 جنيه كحد أقصى للعاملين بإدارة الجبانات من الفئة (أ)، وصرف 1500 جنيه كحد أدنى و2000 جنيه كحد أقصى للعاملين بإدارة الجبانات من الفئة (ب)، وصرف 1000 جنيه كحد أنى و1500 جنيه كحد أقصى للعاملين بإدارة الجبانات من الفئة (ج)، وبالنسبة للأجهزة المعاونة يتم صرف 500 جنيه كحد أدنى و1000 جنيه كحد أقصى للفئة (أ)، وصرف 300 جنيه كحد أدنى و500 جنيه كحد أقصى للفئة (ب).
كما يتم صرف مبالغ مالية كبيرة من موارد مشروع الجبانات بالجيزة على ما يسمى بالجهود غير العادية، حيث يتم صرف بدل جهود إضافية للعاملين بإدارة الجبانات، كما يتم إنفاق جزء كبير من موارد المشروع على ما يسمى بشراء الاحتياجات اللازمة لسرعة إنجاز العمل بالإدارة من أجهزة ومعدات هندسية وأدوات كتابية وسيارات.
بينما الجزء الذي يتم الاستفادة منه في أوجه الصرف من موارد مشروع الجبانات بالجيزة، هو ما يصرف على تسوية الأراضي ورفعها مساحيًا، وتمهيدها ورصفها وأعمال الرسومات الهندسية الخاصة بالجبانات وكذا أعمال التشجير وبناء الأسوار ورفع المخلفات وأعمال الصيانة.
لكن العيار الثقيل في هذا الملف، أنه بعد صرف موارد صندوق الجبانات بالجيزة على المكافآت والحوافز والجهود العادية وشراء الاحتياجات بإدارة الجبانات وتسوية الأراضي وأعمال التشجير، فإنه يتم توزيع الفائض من موارد المشروع على مجلس إدارة مشروع الجبانات والعاملين والأجهزة المعاونة، حيث يتم تخصيص نسبة 2.5% من صافي الإيراد كل 6 شهور على النحو التالي: 0.5% لمجلس الإدارة، و1.5% للعاملين القائمين على العمل بالمشروع، و0.5% للأجهزة المعاونة.
وبالنسبة لمجلس إدارة مشروع الجبانات يتقاضى من الفائض من الموارد المبالغ التالية: 6 آلاف جنيه كحد أدنى، و8 آلاف جنيه كحد أقصى للسكرتير العام المساعد، ومدير إدارة الجبانات يتقاضى 5 آلاف جنيه كحد أدنى، و7 آلاف جنيه كحد أقصى، بينما مدير عام جهاز أملاك الدولة ومدير عام الشئون المالية بالمحافظة ومدير عام الشئون القانونية بالمحافظة فيتقاضى كلا منهم 3 آلاف جنيه كحد أدنى و5 آلاف جنيه كحد أقصى.
أما العاملون بمشروع جبانات الجيزة، يتقاضون من المبالغ الفائضة من موارد المشروع ما يلي: 3 آلاف جنيه كحد أدنى و4 آلاف جنيه كحد أقصى للقائمين على العمل وذو الجهود المتميزة، بينما يتقاضى القائمون على العمل وذو الجهود المتوسطة 2000 جنيه كحد أدنى و3000 جنيه كحد أقصى، ويتقاضى القائمون على العمل لباقي العاملين بالمشروع 1000 جنيه كحد أدنى و2000 جنيه كحد أقصى.
أما الأجهزة المعاونة فتتقاضى من المبالغ الفائضة من موارد مشروع الجبانات نحو 500 جنيه كحد أدنى و1000 جنيه كحد أقصى للفئة الأولى، ونحو 250 جنيها كحد أدنى و500 جنيه كحد أقصى للفئة الثانية.
لا يختلف الحال كثيرًا في معظم محافظات الجمهورية من حيث سيطرة الإدارات المحلية على المقابر وفرض رسوم ترميم مبالغ فيها إلى حد كبير على نحو يرهق الأحياء ماديًا وينقص من مسألة تكريم الموتى، الأمر الذي يثير تساؤلًا هاما هل نفد رصيد الحكومة من فرض رسوم على كافة أمور الحياة للمواطن حتى يصل الأمر بفرض رسوم على ترميم بيوت الأموات؟