صبري الموجي يكتب: أماه.. في يوم عيدك سامحيني !
يُؤلمني في هذه الذكري العَطرة، رغم ما حققتُه من نجاح يغبطُني عليه البعض، أن أعجزَ عن تحقيق ما أردتيه لي أمي الغالية.
وأبدا لم يكن تقصيري عن تحقيق أمنيتك عن عجزٍ - لا سمح الله - إذ إني بشهادة من عَرَفني أملكُ أدواتي.
نعم.. ربما يكون هناك تكاسلٌ مني، لكنّ السببَ الرئيس أنني أعيش في بلد تفنن في خَلقِ مُنغصات ومعوقات، يُضْحي بسببها الحليمُ غضبان، وتضع بسببها كلُّ ذاتِ حَملٍ حملها !
بلدٍ تمسكتُ به وعزفتُ عن مغادرته، ولكنني أخطأت !
أردتِ ليّ أمي التفوق الدراسي، فحرصتُ عليه، وسلكتُ سُبله، وتتبعتُ فِجاجه سنوات، إلي أن أصابتني عينُ حاسد - والعياذ بالله - أججت نيرانَ العداوة بيني وبين الكتاب المدرسي، فاحتدمتْ بيننا الخصومة، وصرتُ لا أطيق النظر في صفحاته، واستعضتُ عنه بالكتاب الشفاهي لمن يكبُرني، وبروايات (الجيب)، التي نمّت ذائقتي اللغوية، وأشعلتْ في نفسي الخيال والصور، فبزغ نجمُ بلاغتي، وأفَلتْ شمسُ تفوقي الدراسي، فسبقني أقرانٌ، ظللتُ سنوات علي سنام ناقة التفوق، وهم بجواري حفاة الأقدام، تُلهبهم رمضاء الظهيرة !
أردتُ أن أحقق أمنيتك أمي ولكنَّ حسّي المرهف، ومشاعري الجياشة، حالا بيني وبين ذلك، إذ كنتُ أحزن لأيّ لوم، ويُسهِّد لياليَّ أقلُ توبيخ، فأنصرف عن واجباتي، ولا أعود أدراجي إلا بعد أن يصفو مزاجي، الذي لم يكن صفاؤه بالأمر الهين.
أردتُ أن أحقق أمنيتك أمي، ولكنيّ سقطتُ في غيابات جُب أصدقاء نفعيين أخذوا من وقتي أكثرَ مما يجب، فكنتُ لهم شمعة تُبدد ظلمة ليلهم المُدلهم، ودرعا يتلقي عنهم طعناتِ البطش، وسيفا يخوض من أجلهم غمار الهيجاء، وبمجرد أن وضعت الحربُ أوزارها، طمعوا في الغنائم، وتركوني في الميدان مُضرجا بدمائي.
أردتُ أن أحقق أمنيتك أمي فصادفني في مرحلة الدراسات العليا أساتذةٌ جهالٌ، ارتقوا مرتقي لم يكونوا له أهلا، ولكنها.. (تأتي مع الهبل دوبل)، فأساءوا وهم يَحسبون أنهم يُحسنون صنعا، فعطلوا مسيرتي بسبب عُقدهم النفسية، ونفوسهم الدّنية !
أردتُ أن أحقق أمنيتك أمي، فعشتُ في بلد أقضت مضحعي بالبحث عن لقمة العيش، وأرهقتني من أمري عسرا في ظل انتشار الفوضي وأخلاق الزحام وغياب الضمير، وانعدام الوازع.
أردتُ أن أحققَ أمنيتك أمي فصدمتني في بلدي سلوكيات شاذة - أعاني بسببها الغربة داخل وطني - كالرشوة والواسطة، والأنانية، وأخلاق الغابة، التي يأكل فيها القويّ الضعيفَ، ولا يُضرَب فيها من له ظهر علي بطنه، بينما يُضرَب الآخرون علي ظهورهم وبطونهم، وأردافهم، وربما تحت الحزام !
أردتُ أن أحقق أمنيتك أمي فهددني في بلدي شبحُ الجوع والفقر، بعدما خُسف بالجنيه الأرض، وصار في الحضيض، فنتجتْ فوارقُ طبقية بين من أُتيحت لهم فرصُ العمل خارج مصر، وبين من عاشوا بين ظهرانيها، يعانون الفقر.
أردتُ أن أحقق أمنيتك أمي، فأفزعني تقطعُ الأرحام، ورحيل البركة بعد رحيلك.
أردتُ أن أحقق أمنيتك أمي، وأكون صلبا قويا.. نعم حاولتُ مرارا، ولكني في كل مرة كنتُ أعود بخفي حنين، وبشرف المحاولة.. فأرجو أن تسامحيني أمي الحبيبة في يوم عيدك.