"فوكاك بكين" يرسم مستقبل العلاقات الصينية-الأفريقية وسط مشهد متغير
يمثل منتدى التعاون الصيني الأفريقي (فوكاك) للعام 2024، الذي يعقد في نسخته التاسعة في بكين غدا الخميس، لحظة حاسمة في تطور العلاقة بين الصين والدول الأفريقية.
وفي وقت يتعامل فيه العالم مع تحولات جيوسياسية كبيرة، وعدم يقين اقتصادي، وتحديات أمنية، يوفر الفوكاك فرصة لإعادة تعريف الشراكة ومعالجة القضايا الملحة التي تواجه كلا الجانبين.
التزامات متنامية وتطور ملحوظ
ويعقد المنتدى التاسع للتعاون الصيني الأفريقي في بكين في الفترة من 4 إلى 6 سبتمبر تحت شعار "التكاتف لدفع التحديث وبناء مجتمع ذي مستقبل مشترك رفيع المستوى بين الصين وإفريقيا"، بحضور الرئيس الصيني شي جين بينغ وجمع كبير من قادة إفريقيا.
وأصبح منتدى التعاون الصيني الأفريقي أهم حدث في تقويم العلاقات الدولية-الأفريقية.
ويحضر عدد أكبر من القادة الأفارقة قممه مقارنة بعدد الذين يحضرون اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتظهر البيانات أن المنتدى يجذب من 40 إلى 60 رئيس دولة وحكومة أفريقية، أي أكثر بكثير من أي قمة عادية أخرى مع دولة واحدة.
وشهدت قمة قادة الولايات المتحدة وإفريقيا في ديسمبر عام 2022 مشاركة 45 رئيس دولة وحكومة و49 دولة، لكنها أقل تواترا بكثير. وكانت القمة السابقة قد عقدت عام 2014.
ومنذ إنشائه، تطور التبادلات بين الصين وإفريقيا بشكل ملحوظ ونما التعاون التجاري بينهما من ١٠٠ مليار يوان إلى ما يقارب تريليوني يوان من عام ٢٠٠٠ إلى ٢٠٢٣. في السنوات الاخيرة، أخذ التعاون دفعة كبيرة بفضل التزامات ووعود الصين بتقديم عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات والاستثمارات والقروض للدول الأفريقية، التي كان لها أثر ملموس على تطوير مستوى البنية التحتية والتعاون الصناعي بين إفريقيا.
وفي سياق المنتدى، قد تعاونت الشركات الصينية مع الحكومات الأفريقية في بناء السكك الحديدية والمطارات والموانئ والجسور والبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وعلى مختلف الاصعدة، حققت العلاقات تطورا ملحوظا. لو تحدثنا في البداية عن التنمية الاقتصادية، فإن المنتدى أدى إلى تسهيل الاستثمار الصيني في البنية التحتية والتكنولوجيا والصناعات الأفريقية، وبالتالي تحفيز النمو الاقتصادي في البلدان المشاركة.
وفي التجارة الثنائية، عزز المنتدى الاتفاقيات التجارية بين الصين والدول الأفريقية، ما أدى إلى تحسين الموازين التجارية. وعندما يتعلق الأمر بمشاريع البنية التحتية، فنجد أن العديد من مبادرات فوكاك تركز على تلبية الاحتياجات الحرجة في مجالات النقل والطاقة والرعاية الصحية.
لكن الاكثر أهمية أن الشراكة تتماشى مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، ما يسهم في تحقيق الأهداف الإنمائية الأوسع.
وتوضح المشاريع مجالات التعاون المتنوعة في إطار منتدى التعاون الصيني الأفريقي، وتسلط الضوء على دور الصين في دعم البنية التحتية والطاقة والصحة وتطوير التكنولوجيا في جميع أنحاء إفريقيا.
ومن أمثلة مشاريع الفوكاك الناجحة في إفريقيا، نجد مثلا في مجال السكك الحديدية خط السكة الحديد بين كينيا وأوغندا حيث تم تمويل الخط السكك الحديدية القياسي الذي يربط مومباسا بنيروبي من خلال قروض صينية وبنته شركات صينية. وقد حسن الخط بشكل ملحوظ من مستوى كفاءة التجارة والنقل في المنطقة.
وفي مجال تطوير البنية التحتية، يقف مقر الاتحاد الأفريقي الذي بني بتمويل صيني في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا رمزا على التزام الصين بدعم الوحدة والتنمية الأفريقية. وتوجد ايضا العديد من الأمثلة الناجحة في الطاقة، مثل مشروع جوليوس نيريري للطاقة الكهرومائية في تنزانيا.
وقد لعبت الشركات الصينية، مثل هواوي، دورا رئيسا في توسيع البنية التحتية للاتصالات في أنحاء إفريقيا، وتحسين الوصول إلى الإنترنت والاتصال. وفي مجال الصحة، تم تنفيذ مبادرات صحية مختلفة، بما في ذلك بناء المستشفيات وتوفير الإمدادات الطبية، في بلدان مثل زامبيا وإثيوبيا، لا سيما خلال الأزمات الصحية مثل جائحة كوفيد-19.
ولا يفوت التعاون في التنمية الزراعية أيضا، حيث أقيمت مراكز تجريبية للتكنولوجيا الزراعية في العديد من البلدان الأفريقية، مما عزز الأمن الغذائي والإنتاجية الزراعية. ودعمت الصين تطوير المجمعات الصناعية في عدد كبير من الدول بينها مصر وإثيوبيا، ما أدى إلى توفير فرص العمل وتعزيز التصنيع وهو أمر بالغ الأهمية للتحول الاقتصادي لهذه البلاد.
مستقبل وسط تحديات
وحاليا، يمر المشهد الدولي بتحولات سريعة، تتميز بتغيرات في ديناميكيات القوة، وزيادة في الحمائية التجارية، وتنافس متزايد بين القوى العالمية. وبالنسبة للصين والدول الأفريقية، يمثل التعاون المستقبلي في اطار الفوكاك تحديا وفرصة في ذات الوقت.
ويوفر منتدى هذا العام فرصة للدول الأفريقية لتأكيد نفسها وتعزيز مكانتها الدولية أثناء التعامل مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، يعد مصدرًا رئيسيًا للاستثمار والتجارة والمساعدات التنموية، وبالنسبة للصين يمثل المنتدى أيضا فرصة لدفع رؤيتها المتمثلة في بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك مع بلدان الجنوب والارتقاء به إلى مستوى اعلى. مع دول افريقيا.
فالمنتدى التعاون الصيني الأفريقي منصة رفيعة المستوى ويقدم نهجا متعدد الأوجه لتعزيز التعاون بين الصين وإفريقيا، ومعالجة الأبعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية. ولا تكمن أهميته في الفوائد المباشرة فحسب، بل أيضا في تشكيل علاقات طويلة الأجل يمكن أن تؤدي إلى التنمية المستدامة والنمو المتبادل.
ووسط التحديات التي يطرحها عدم اليقين الاقتصادي والنزاعات والقضايا الأمنية، يمكن للجانبين تشكيل شراكة ليست فقط مرنة ولكن أيضا تستجيب لهذا السياق العالمي المتغير.
في الجانب الاقتصادي، يتعين على الجانبين استكشاف طرق للحفاظ على الروابط الاقتصادية القوية، وسط تضليل إعلامي ومغالطات غربية للنيل من هذه العلاقة. ومن الأهمية بمكان ان يتم التركيز على تنويع الشراكات التجارية، وتعزيز الابتكار، وتحديد فرص الاستثمار الجديدة التي تتماشى مع أهداف التنمية الأفريقية والصينية.
وبينما تواجه إفريقيا نزاعات وتحديات أمنية تؤثر على التنمية والاستقرار، تهدد قضايا مثل الإرهاب، والنزاعات بين الدول، ليس فقط المجتمعات المحلية ولكن أيضا الاستقرار الإقليمي الأوسع. وتمتلك الصين في سياق فوكاك فرصة للعب دور بناء في حفظ السلام وحل النزاعات. وقد نجحت في تقديم نفسها كوسيط فاعل بين السعودية وإيران والمصالحة بين الفصائل الفلسطينية.
ومن خلال تعزيز الحوار والتعاون في القضايا الأمنية، يمكن للصين أن تساعد في معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار. قد يتضمن ذلك تعزيز التعاون العسكري، وتوفير التدريب لقوات حفظ السلام، ودعم المبادرات الأفريقية لحل النزاعات.
وحاليا، لا يزال تغير المناخ يمثل قضية ملحة، خاصة بالنسبة للدول الأفريقية التي تتأثر بشكل غير متناسب بتداعياته. وهنا يمكن أن تسهل الجهود المشتركة التي تركز على التقنيات الخضراء، ومشاريع الطاقة المتجددة، والممارسات الزراعية المستدامة، تسهل النمو الاقتصادي مع معالجة التحديات البيئية.
وتقدم تجربة الصين في الطاقة المتجددة فرصة للتعاون، لا سيما في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح التي يمكن أن تساعد الدول الأفريقية في تلبية احتياجاتها من الطاقة بشكل مستدام.
أخير وليس آخرا، في ضوء أهمية المنتدى وارادة الجانبين في دفع الشراكة إلى مستويات أعلى، يتوقع أن تكون نتائج هذا المؤتمر حاسمة في تحديد مسار التعاون بين الصين وإفريقيا وسط التحديات الإقليمية والعالمية، ما يضمن هذا المسار أن يكون مفيدا، ومستداما، ومتوافقا مع تطلعات شعوب الجانبين. ففي عالم متزايد الترابط، يظل فوكاك منصة حيوية للتعاون، والحوار، والتقدم المشترك.