في ذكرى مولده.. علي جمعة يتحدث عن رسول الله
قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة يدعى بمكة "الصادق الأمين" تخيل وفي خِضمّ الجاهلية.. تخيل رجلًا يرى الصدق من مكارم الأخلاق وإن كان الكذب من عوائد الناس، ويرى الصدق فيصدق بإذن الله، ولا يستطيع أحدٌ أبدا في تاريخ حياته أن يجد له كذبة، فسموه بالصادق وائتمنوه على أماناتهم وأعراضهم وأنفسهم، وإن كانوا مخالفين له؛ فسموه بالأمين فصار هو الصادق الأمين ﷺ، ومرة وهو يرى أنهم يكذبونه فيما يمس حياتهم صعد على تبّة أو تلةٍ صغيرة وقال: (أرأيتُم إنْ أخبرتُكم أنَّ خيَلًا تخرجُ منْ سَفْحِ هذا الجبلِ ـ وفي رواية: أنَّ خيلًا تخرجُ بالوادي تريدُ أن تُغيرَ عليكم ـ أكنتُم مُصدِّقيَّ ؟) قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليكَ إلا صِدْقًا.
بناء الدولة الإسلامية
ولما جاءه الأمر من ربه جل جلاله بأن يهاجر من مكة إلى المدينة _ابتعادًا عن أذيتهم للمؤمنين، وتمهيدًا لبناء الدولة التي ستخرج إلى العالم أجمعين_ ردّ الودائع التي كانت عنده للمشركين.. إذًا فالمشركون كانوا يضعون عنده الودائع!
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أضاف إلى الصدق والأمانة ؛ "البركة".. خرج في التجارة مع عمه فكان ذكيًا فطنا، يأخذ السلعة من مكة _وهي تأتيها من رحلة الشتاء من اليمن_ ليخرج بها إلى الشام، ولا يخرج بمحض نقودٍ يشتري بها ثم يعود، بل إنه يأخذ تلك النقود بتقليب تجارةٍ وإدارةٍ حسنة يأخذها إلى الشام، وعندما يأخذها إلى الشام يبيعها فيربح، فكان من المعتاد أن يشتري ويعود لكنه كان يقلب المال هناك في دورةٍ أفقيةٍ أخرى، ويشتري ويبيع وهو في الشام، حتى إذا ما زاد المال وكثر اشترى سلعًا بعينها تكون أكثر نفعًا لذويه، ويكون أهل بلده أكثر انتفاعًا بها، فيعود فيربح بها أضعافًا كثيرة، ويزداد المال في يده من حسن ذكائه وفطنته وإدارته- بتوفيق الله له وعلو شأنه عنده- أضعافا كثيرة، لا يراها الناس مع أقرانه والمتدربين على هذا من ذويه وأهله، حتى لفت هذا الأمر انتباه السيدة خديجة عليها السلام وهي أم فاطمة الزهراء أصل أهل البيت الكرام، وتزوجها النبي ﷺ، ورزقه الله منها الولد بنين وبنات، إلا أن الله سبحانه وتعالى وعلى عادته مع أولئك الذين هم من أهله _أهل الله_ يريد أن يفرّغ قلبهم له سبحانه؛ فلم يبق له ولد ذكر لأمرٍ يريده الله جل جلاله، من أن أبناء الأنبياء على هذه الصفة ومع ذلك العلو يكونون من الأنبياء، وهو خاتم المرسلين، فصبر ولم يجزع فلم نسمع منه كلمةً فيها اعتراض على قضاء الله وقدره، والله سبحانه وتعالى جعله مثالًا للصابرين المحتسبين؛ فكان يتيمًا وضُيّق عليه في رزقه في أول الأمر، ولما جاء الرزق بعد ذلك وفتحت عليه الغنائم لم يبق منها في يده شيء؛ لأنه كان يخرجها كلها لله رب العالمين.. صادق أمين مبارك ﷺ.
صفات النبي
وفي الفتح جاء عبد الله بن أبي سرح مستشفعا بعثمان رضي الله عنه –اخوه في الرضاعة-، وسيدنا ﷺ في فسطاطه، وقد دخل معه عثمان ذو النورين، وعثمان يتشفع له والنبي يكظم غيظه، ويأبى ثلاثا، ثم قَبِل شفاعة عثمان وعفا عن الرجل، وبعد ما خرج والضيق يملأ صدر النبي ﷺ غضبا لربه، قال: (أمَا كَانَ فِيكُم رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إلَى هٰذَ حَيْثُ رَآني كَفَفْتُ يَدِي عنْ بَيْعَتِهِ، فَيَقْتُلُهُ)، فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَارَسُولَ الله ما في نَفْسِكَ ألاَ أوْمَأْتَ إلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟، قالَ: (إنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةٌ الأعْيُنِ) لم يقل لسانه كذبا، ولم يكن فعله كذبا، بل إن طرفة العين منه لم تكذب ولم تخن.
وفي يوم العقبة ناداه جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَىَّ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِى رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِى بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ ». فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ».
فالحمد لله الذي جعلنا من أتباع ذلك النبي المصطفى الذي يقول لنا: (أنا منكم مثل الوالد للولد) قد حمل همنا.. فاللهم جازه عنا خير ما جازيت نبيًا عن أمته.. اللهم أقمنا يا رب العالمين في سنته، وأقمه فينا نعيشه حتى ننال سعادة الدارين، فكم له من منةٍ في أعناقنا نذكرها فنصلي عليه.. اللهم صَلِّ عليك يا أسعد مخلوقات الله.