رئيس التحرير
خالد مهران

أخطأ مستشار شيخ الأزهر وأصابت المحكمة الدستورية

حمدي رزق
حمدي رزق


كى لا ينسى أحد المادة التى اعترضتُ عليها فى مشروع قانون «مكافحة الكراهية باسم الدين»، تنص على أنه «لا يجوز الاحتجاج بحرية الرأى والتعبير أو النقد أو حرية الإعلام أو النشر أو الإبداع للإتيان بأى قول أو عمل ينطوى على ما يخالف أحكام هذا القانون».

ووجه احتجاجى هو أن هذه المادة تمنع أى مواطن من حريته فى إبداء دفاعه أمام المحكمة، فإذا قال للمحكمة قلتُ رأيى بناء على حرية إبداء الرأى المقررة فى الدستور سيقول له القاضى: لا يا أيها المتهم المادة الرابعة من القانون إياه تمنعك من الاحتجاج بحرية الرأى والتعبير، لا تناقشنى فى هذا، لا تنطق أمام المحكمة بكلمة فيها حرية، المحكمة ليست لها الحرية فى تقدير حريتك، وليس لها الحق فى تقدير حقك فى استخدام حريتك وإبداء رأيك، هذا الكلام لا يصلح هنا.

ثم جاء رد الأستاذ محمد عبدالسلام، المستشار التشريعى لشيخ الأزهر الجليل الإمام الأكبر أحمد الطيب، وأصدقكم القول أن نفسى حدثتنى قبل أن أتلقى الرد أن سيادة المستشار سيعتذر عن ورود هذه المادة فى القانون، وراودتنى ظنونى- وهى كثيرا ما تراودنى- عن أنه سيفعل كما كان يفعل الكبار فى أيام «الكبار» وسيقول فى رده: «أخطأ المستشار وأصاب حمدى».

وما تمنيت هذا انتصارا لنفسى ولكن انتصارا للقيم الإنسانية العليا التى أقرها الإسلام وانتصرت لها الدساتير بما فيها الدستور المصرى منذ عام 1923 إلى الآن، ولذلك فإننى لن أعتصم فى ردى على المستشار برأيى الشخصى، ولكننى سأعتصم برد المحكمة الدستورية الذى أوردته فى مئات الأحكام القضائية.

يقول المستشار فى رده تحت (أولا) ما ملخصه: «القاعدة فى تفسير القوانين أن نصوص القانون يكمل بعضها بعضا، ولا يجوز اقتطاع مادة أو عبارة وتفسيرها بمعزل عن باقى نصوص القانون»، وينتهى المستشار بهذا إلى أننى اقتطعت مادة من سياقها وفسرتها بعيدا عن مواد القانون، بمعنى أن هذه المادة تُكملها مواد أخرى فى القانون مرتبطة بها ارتباطا وثيقا.

هذا شىء عظيم، والحقيقة يا سيادة المستشار قولك هذا يترتب عليه بطلان كل مواد القانون المرتبطة بهذه المادة، فالمادة التى أوجعتنى فكتبتُ عنها يُطلِق عليها القضاء الدستورى «المادة الأم» وإذا حكمت المحكمة الدستورية ببطلان تلك المادة يترتب على ذلك بطلان باقى المواد المرتبطة بها فى ذات القانون، والذى يقول هذا لست أنا بل المحكمة الدستورية ذات نفسها. ففى حكم شهير لها قضت بأنه: «إذا كانت نصوص القانون يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً لا يقبل التجزئة، فإن عدم دستورية أحد هذه النصوص أو إبطال أثره يستتبع بحكم هذا الارتباط إبطال باقى نصوص هذا القانون المرتبطة به»، وإذا أردت أن تتأكد يا سيادة المستشار من هذا فلك أن تعود- وأنت الخبير فى التشريع بلاشك- إلى مدونات الحكم الصادر فى القضية رقم 43 لسنة 17 قضائية «دستورية»، جلسة 2 يناير 1999، وإذا أردت أن تستزيد أكثر فعُد إلى الحكم الآخر الصادر فى القضية 16 لسنة 15 قضائية جلسة 14 يناير سنة 1995، وإذا أردت أن تستزيد أكثر وأكثر فَعُد إلى كل أحكام المحكمة الدستورية منذ نشأتها فستجد فيها ما يَسُرّك.

وبهذا فإن هذه المسألة عليك لا لك، لا يمكن أن يضع مُشرِّعٌ خبيرٌ فى التشريع مادة بها عوار دستورى، ثم يقول للناس انتظروا لا تتسرعوا فى الحكم، إذ لو قرأتم باقى مواد القانون المرتبطة بهذه المادة ستجدون المادة غير الدستورية قد تحولت بقدرة قادر إلى مادة دستورية لا شية فيها صفراء تسر الناظرين!.

يا سيادة المستشار التشريعى الجليل هناك قواعد تشريعية يعرفها خبراء التشريع فى العالم هى أن مواد القانون الواحد المُتساندة يشد بعضها بعضا، فإذا سقطت واحدة منها لن تقول المحكمة الدستورية: سقطت واحدة، ولكن ستقول: «تشريعٌ أعوج»!.

ويقول المستشار التشريعى الجليل فى (ثانيا): «إن كل التزام سواء كان سلوكا إيجابيا بالفعل أم سلبيا بالامتناع هو فى حد ذاته يعد قيدا على الحقوق والحريات»، ثم ضرب لنا المستشار مثلا ونسى نفسه، قال هناك نظرية التعسف فى استعمال الحق فيما يخص الملكية، وهى معمول بها فى مصر فى المادة الخامسة من القانون المدنى، وشكر الله للمستشار ما قاله، فقد عُدت للمادة الخامسة التى ذكرها فوجدتها تتحدث عن التعسف فى استعمال الحق فى كل شىء سواء فى الملكية أو غير الملكية، التعسف فى استعمال الحق نظرية عامة وقديمة يا سيادة المستشار، يعنى مثلا كل واحد له الحق فى أن يرفع ما يشاء من قضايا على من يشاء، ولكن بشرط ألا يتعسف فى استعمال هذا الحق بأن يكون هدفه من القضايا الإضرار بالغير، كأن يستهدف مثلا من إقامة القضايا سجن من يختلف معه فى الرأى.

ومن ضمن التعسف يا سيادة المستشار التشريعى تعسف المشرع فى استعمال حقه التشريعى، وقد أطلق عم القانون كله، وعمنا الدكتور السنهورى على هذا التعسف اسم «انحراف البرلمان فى استعمال سلطته التشريعية»، وقال وهو يشرح هذا الانحراف فى مجلة مجلس الدولة الصادرة عام 1951 بأنه مِثل أن يُصدر البرلمان تشريعات تستهدف منع المواطنين من استخدام أى حق من حقوق الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء، وكأن عمنا السنهورى- رحمة الله عليه- كان يقرأ معنا المادة الرابعة من قانون مكافحة الكراهية.

ومع ذلك يا سيادة المستشار أنا أحب أن أكون دقيقا فى المصطلحات، وسيادتك أستاذ فى المصطلحات كما وضح من ردك، تنظيم الحق شىء والحد منه شىء آخر تماما يا معالى المستشار، فالحقوق لا نضع عليها تشريعات تقيدها، ولكن نضع لها تشريعات تنظمها، فالقيد كما تعلم، وحضرتك سيد العارفين، هو تكبيلٌ لها ومنعٌ لحركتها، ولكن التنظيم يضع لها قواعد حركة وعمل، وعندما أراد سيادة المشرع المصرى وضع قانون للحقوق السياسية سماه «قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية» لا قانون الحد من الحقوق السياسية، أظن المسألة واضحة والحق فيها واضح، وعلى ما أعتقد يا سيادة المستشار فإن نظرية الحق يتم تدريسها فى السنة الأولى لكلية الحقوق.

وبما أننا نتحدث عن كلية الحقوق فإنها قالت- النظرية والكلية- إن حق الإنسان عن الدفاع عن نفسه هو من الحقوق التى لا يجب أبدا أن يضع المشرع أى قيد عليها، وهى من الحقوق اللصيقة بالإنسان التى لا يجب التفريط فيها أبدا، ومحكمتنا الدستورية العليا قالت فى عشرات الأحكام إن المشرع يجب أن يضع عقوبات على من يقوم على التعدى على الحقوق.

وعندك يا معالى المستشار التشريعى الحكم الرائع الذى أصدره الراحل العظيم المستشار عوض المر يوم 16 مايو سنة 1992 فى الدعوى الدستورية رقم 6 لسنة 13 قضائية، فى هذا الحكم قال عمنا عوض المر: «فرض قيود على حقوق الدفاع تحد منها إنما يخل بالقواعد المبدئية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة، ومن ناحية أخرى فإن حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق فى دحضها بأدلة النفى التى يقدمها، وحقه فى نفيها بما يشاء من أوجه الدفاع هى من الحقوق التى لا ينبغى للمشرع أن يحد منها».. سامع يا سيادة المستشار، لا يجوز الحد منها، لست أنا الذى قال ولكن عمنا كلنا المستشار عوض المر، عليه رحمة الله.

أما الحريات، فالمشرع يضع ضوابطها ولكن ليس من حقه أن يمنعها، والحريات غير الحقوق، يعنى دعنا هنا نتفق على أن المشرع يجوز له أن ينص على أنه لا ينبغى لأحد أن يحض على كراهية عقيدة أو دين أو مذهب أو طائفة، هنا يا سيادة المستشار التشريعى وضع المشرع تنظيما لحرية الرأى فى هذا المجال.

فى هذا السياق، لك يا أيها المواطن المحترم أن تبدى رأيك ولكن بشرط، ما هو أيها المشرع المحترم؟ الشرط هو ألا يكون رأيك هذا تحريضاً على كراهية عقيدة أو.. أو.. أو..، ماشى الكلام، هذا كلام لا نختلف فيه، ولكن إذا أمسكت المؤسسة الفلانية أو المحامى الفلانى برقبة مواطن غلبان وقادته إلى المحكمة ليُعاقب بالحبس لأنه قال كلاما رأت تلك الجهة أو هذا المحامى أن فيه حضاً على كراهية، وجاء المتهم الغلبان وقال لا أنا لم أحض على كراهية، أنا فقط كنت أبدى رأيى فى آراء وليس فى عقائد، هنا يكون المواطن الغلبان قد تمسك بحرية الرأى، ويكون القاضى- القاضى وحده يا سيادة المستشار التشريعى- هو صاحب الحق فى تقدير ما إذا كان هذا الكلام مكفولا بقواعد حرية إبداء الرأى، أو أنه تجاوز حقه وخرج من نطاق الحرية الشخصية إلى حد التعدى على حرية الآخرين.

ندخل إلى (ثالثا) التى يقول فيها المستشار التشريعى إن نظام الحد من الحقوق هذا إنما هو معمول به فى تشريعات دول أخرى، بما فيه المادة الرابعة. أهكذا! معمولٌ به فى تشريعات دول أخرى! دول أخرى تمنع المواطن من الدفاع عن نفسه أمام المحكمة فى قضايا الرأى وتقول له لا تتحجج أيها المواطن بحرية الرأى وأنت تدافع عن نفسك!. أنا أقول لك يا سيادة المستشار التشريعى إننى «نقَّبتُ وبصَّرتُ كثيرا لكنى لم أقرأ أبداً تشريعاً يشبه تشريعك» لا فى مصر ولا فى غير مصر من باقى دول المعمورة إلا فى «نيكاراجوا».

أما (رابعا) التى تقول فيها يا سيادة المستشار إن هذا المشروع خالص لوجه الله والوطن، فنحن معك فى هذا الخلصان، ولكن النوايا الطيبة لا تكفى فى صياغة التشريعات وضبطها، وإلا سنجد أنفسنا أمام قانون ستقضى المحكمة الدستورية حكما حتميا بعدم دستوريته، ولن يشفع لنا وقتها أن تكون هيئة كبار العلماء قد راجعته، فهى هيئة دينية على العين والراس، لا تشريعية تحت رقابة الدستور.

نأتى إلى (خامسا) التى تقول فيها إن تخوفنا هو تخوف مشروع، وإنكم لذلك حاولتم قدر الإمكان ضبط الصياغة لتحديد مدلولها، ثم تقول: «وهى مشكلة عامة فى العديد من الاصطلاحات القانونية بالقوانين المختلفة التى تتم معالجتها بأدوات الصياغة التشريعية وقواعد التفسير المستقرة».

أصدقك القول يا سيادة المستشار التشريعى أننى لم أفهم شيئا، هل يصدر التشريع ثم نبدأ فى معالجته بعد ذلك بأدوات الصياغة التشريعية وقواعد التفسير؟! الكلام عكس بعضه تماما، هل يصدر التشريع مبهماً ونترك الأمر لقواعد التفسير؟ التشريع يصدر من المشرع يا سيادة المستشار، والتفسير يصدر من الفقهاء والمحاكم، ونحن نتحدث معك فى تشريع (أنت) الذى قمت بصياغته، فهل تريد بعد ذلك إلقاء الكرة فى ملعب المفسرين؟!

ثم إننى أقسم لك أنه لا توجد أى مشكلة عامة فى العديد من الاصطلاحات القانونية، الاصطلاحات القانونية منضبطة، ولكن المشكلة فى المشرع الذى لا يعرف ضبط هذه المصطلحات وهو يضع التشريع، فيترتب على ذلك الحكم بعدم دستورية القوانين، ولا يصلح بعد ذلك أن يقول دفاع الحكومة أمام المحكمة الدستورية: كانت نيتنا طيبة، والقانون راجعته هيئة كبار العلماء، والله والوطن من وراء القصد، كان من الأفضل يا سيادة المستشار التشريعى أن تقول فى ردك: «أخطأ المستشار التشريعى وأصبتم أنتم».

نقلًا عن" المصري اليوم"