المسرح والحرب: التصعيد مع إيران
كان المشهد مسرحيا، أضواء وظلال وديكور وممثل وحيد على الخشبة يخاطب مشاهديه فيما يشبه «المونودراما» دون أن يكون النص على شىء من التماسك، أو الإقناع.
لم يكن النص خارج ما هو معروف عن المشروع النووى الإيرانى ولا دامغا فى إثبات عدم التزامها بمقتضيات الاتفاق، الذى وقعته عام (٢٠١٥) مع الدول الكبرى، ولا أيد استنتاجاته أحد باستثناء الإدارة الأمريكية.
هكذا بدا المؤتمر الصحفى لرئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» فى عيون متابعيه، الذين أجمعوا على توصيفه بالعمل المسرحى.
السياسة تستلهم ــ أحيانا ــ بعض فنون المسرح، لكنها ليست عرضا مسرحيا.
هناك مصالح وإستراتيجيات وموازين قوى تضع حدودا وحقائق على الأرض يصعب تجاوزها.
النص بتوقيته استباق بالتحريض قبل (١٢) مايو الحالى، وهو الموعد الذى ضربته إدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» لتحديد موقفها من ذلك الاتفاق.
هو يدرك أن الإدارة الأمريكية، التى تشاطره الموقف نفسه، فى شبه عزلة عن حلفائها الغربيين، الذين يخشون مغبة التنصل من الاتفاق دون أن تكون هناك رؤية بديلة تعرف أين تقف، أو ماذا بعد أى إلغاء ولا مدى تأثيره وتداعياته؟
لا الاتحاد الأوروبى يزكى هذا الخيار العشوائى ــ حسب «فيديريكا موجيرينى» مفوضة الشئون الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبى، التى أكدت أن «طهران امتثلت بشكل كامل للالتزامات المنصوص عليها فى الاتفاق»، ولا هيئة الطاقة الذرية توافق على أن إيران ارتكبت خروقا.
هناك ملاحظتان رئيسيتان فى ذلك العرض المسرحى.
الأولى ــ اصطناع هالات بطولة خارقة على «الموساد» كأقوى جهاز مخابرات فى الشرق الأوسط، الذى استطاع فى ساعات معدودة من اقتحام الأرشيف الإيرانى السرى والاستيلاء على ما فيه من وثائق وأقراص مدمجة ومغادرة المكان إلى إسرائيل بسلام ــ كأننا أمام مشهد مقتطع من أفلام «جيمس بوند».
كان اصطناع البطولة رسالة إلى الإقليم، نحن قادرون على الوصول إلى أكثر الأماكن سرية وحراسة وكشف نوايا أعدائنا، كما نحن قادرون على حماية الأصدقاء والحلفاء الحاليين والمستقبليين.
كأى شىء مصطنع أخفقت الرسالة لحظة إعلانها.
الثانية ــ الضغط على الأوروبيين بالإحراج لتليين مواقفهم، أو جعل مواقفهم قريبة مما تطلبه إسرائيل وتتبناه الإدارة الأمريكية، بإدخال تعديلات جوهرية على الاتفاق تدخل فيه منظومة الصواريخ الإيرانية الباليستية وأدوارها الإقليمية.
وهذه لا شأن لها بمدى الالتزام الإيرانى بمقتضيات الاتفاق النووى.
التلويح بإلغاء الاتفاق ورقة ضغط لكنه ليس هو صلب الأزمة.
الأوروبيون لديهم نفس القلق بدرجة أقل من اتساع الدور الإقليمى الإيرانى فى ملفات عديدة، أهمها وأخطرها الملف السورى، لكنهم يخشون تصعيدا غير محسوب يتبنى النظرة الإسرائيلية بكل اندفاعاتها وحماقاتها.
كما أن لديهم أسبابا أخرى للقلق من قوة حضور الدور الروسى فى المعادلات السورية على حساب الدول الغربية وحلفائها ودخول تركيا عضو «الناتو» طرفا رئيسيا فى تفاهمات عسكرية واستخباراتية مع روسيا وإيران بما يربك أى حسابات استراتيجية.
كانت المشاركة الفرنسية والبريطانية مع الولايات المتحدة فى هجوم ثلاثى على مواقع سورية تعبيرا عن إدراك مدى التراجع الكبير فى الحضورين العسكرى والسياسى إلى حدود تنذر بالتهميش.
بذريعة استخدام أسلحة كيماوية فى الغوطة الشرقية جرى الهجوم الثلاثى دون انتظار لما تسفر عنه تحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيماوية.
لم يكن البحث عن الحقيقة انتصافا لأى ضحايا موضوع الهجوم بقدر ما كان رسالة لروسيا أولا ولإيران ثانيا أن هناك قوى أخرى فى اللعبة لا يجب تجاهلها فى تقرير المصير السورى، وأن من بين هذه القوى إسرائيل نفسها.
يصعب النظر إلى الموقف الإسرائيلى من الاتفاق النووى الإيرانى، والتحريض عليه والتلويح بحرب وشيكة، بعيدا عن التطورات الميدانية فى سوريا حيث أحكم نظامها سيطرته على محيط العاصمة دمشق واتسعت حركته لمناطق أخرى بما يومئ بنصر طرف وهزيمة آخر.
بالنسبة لإسرائيل سوريا مسألة أمن ووجود.
إذا ما تفككت تضمن أمنها عند حدوده القصوى.
كما تضمن إضعاف العالم العربى على نحو يسمح لها بالتطلع إلى حقبة إسرائيلية طويلة تكون لها اليد الطولى فى تقرير مصير الإقليم وأن تكون مركز التفاعلات السياسية والاقتصادية داخله على حساب دوله الكبرى كمصر وإيران وتركيا.
التلويح بالحرب على إيران ورقة سياسية أكثر من أن تكون عسكرية.
بأى نظر إلى تعقيدات الإقليم وحسابات القوى المتداخلة فيه يصعب توقع مثل هذه الحرب، أيا كانت درجتها.
هناك موانع دولية وروادع إقليمية.
لا أحد فى العالم مستعد لحماقة من مثل هذا النوع، تداعياتها مفتوحة ونتائجها خطرة.
لن يكون هناك غطاء سياسى أوروبى لأى ضربة إسرائيلية محتملة، ولا الولايات المتحدة نفسها سوف توفر مثل هذا الغطاء بضغوط مؤسستها العسكرية التى وضعت حدا لم يتجاوزه الهجوم الثلاثى على سوريا، ولا روسيا سوف تتقبل النيل من حليفتها الرئيسية فى الإقليم وإلا فإن صورتها سوف تهتز بفداحة.
فى الإقليم هناك توجهان متناقضان.
الأول ــ سوف تذهب مع إيران إلى النهاية تشاركها أى عمليات عسكرية مضادة ترد وتردع.
السيناريو ــ بذاته ــ ردع مسبق.
بعد ما تسرب لوسائل إعلام أمريكية عن ضربة وشيكة نفى «نتنياهو» أنه يسعى لحرب مع إيران، ولكنها هى التى تغير القواعد فى المنطقة.
أى قواعد يقصد بالضبط؟
ــ القواعد التى يحددها هو.
إذا كانت هناك قواعد قانونية فما معنى أن تحتكر وحدها السلاح النووى فى الإقليم، لا تخضع لتفتيش أو حساب.
وإذا كانت هناك قواعد أخلاقية فما معنى امتناعها عن قبول المبادرة المصرية بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية.
والثانى ــ سوف تذهب مع إسرائيل إلى النهاية بالنكاية فى إيران، تحرض على الحرب لعلها تخفف وطأة فشلها الإقليمى وتمول عملياتها ــ كما حدث فى الهجوم الثلاثى.
تلك ألعاب نار إذا ما اشتعلت لن ينجو منها أحد.
مشكلة الرهان على إسرائيل أنها تلعب لحساب مشروعها الاستيطانى والتوسعى لا بمقتضى شيكات مدفوعة.
ثم إن مشكلة ذلك الرهان أنه يتقاطع ــ بالتوقيت نفسه ــ مع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة فى (١٥) مايو الحالى تحت عنوان واحد: «التصعيد بأزمات الإقليم».
أرجح الاحتمالات المضى قدما فى تصفية القضية الفلسطينية باستثمار الهرولة العربية والمناورة بالتصعيد مع إيران دون الوصول إلى الحرب المباشرة.
نقلًا عن «الشروق»