رئيس التحرير
خالد مهران

من رصد التطرف الدينى إلى الرقابة والصحافة.. رسائل مخفية فى «أهو ده اللى صار»

أبطال مسلسل «أهو
أبطال مسلسل «أهو ده اللى صار»


بشخصياتٍ «مرسومةٍ» بإتقانٍ، وحكاياتٍ عن عوالمَ «مدهشةٍ»، وسيناريو «مُحكم»، نجح الكاتب عبد الرحيم كمال في تقديم العمل الدرامى الأيقونة «أهو ده اللى صار» الذى انتهت حلقاته منذ أيامٍ قليلةٍ؛ ورغم ذلك لم تتوقف الإشادة به، خاصةً على صفحات «السوشيال ميديا».


الحقيقة أننى صحفى ولستُ ناقدًا فنيًا حتى أقدمَ قراءةً وافيةً لهذا العمل الدرامى؛ لكننى مجرد «متذوق» لمسلسل سرد قصص حبٍ بين شخصياته، متنقلًا بين الماضى - 100 سنة للوراء - حتى وقتنا الجارى، متخذًا من المكان أو «قصر نوّار باشا» مسرحًا لمعظم أحداثه، حتى «العُشة» التى يسكنها «على بحر» ويلتقي فيها رفاقه «الفنانين» كانت قريبةً جدًا من القصر الذي شهد قصة «غرام» يوسف ابن الباشا بـ«نادرة» الفتاة الصعيدية التي ميزّتها «خديجة هانم» وعلمتها وفضلتها عن كل العاملين لديها؛ لكنها لم تكن تعلم أنّ تلك الفتاة ستكون «حبيبة ابنها» الطبيب القادم من بلاد أوروبا.



بعمله الجديد الذى توفر له مخرج محترف مثل حاتم على، يؤكد السيناريست عبد الرحيم كمال أنّ الأعمال الفنية لا تُكتب لمجرد «التسلية»؛ ولكن لطرح القضايا الكُبرى بـ«تكثيفٍ شديدٍ»؛ فها هو يطرح قضية القصور الأثرية التى يتصارع عليها رجال الأعمال - لأهدافٍ مختلفةٍ - ومحاولات الحفاظ عليها من خلال «يوسف» الذي يعمل حارسًا على قصر يعد قطعةً فنيةً بالإسكندرية، ويسعى أن تستولى عليه الحكومة؛ لتتمكن من الحفاظ عليه وتحويله لـ«متحفٍ فني»، لكن الأحداث تتغير بعد لقائه بـ«سلمى فاروق» الصحفية التى تكتب تحقيقًا صحفيًا عن القصر، فتنشأ قصة حبٍ بين الاثنين تكون سببًا في سرد حكاياتٍ عن تاريخ القصر ومن عاشوا به مثل يوسف نوار باشا ونادرة، خديجة هانم، زكي الصعيدي، والد نادرة، وغيرهم.


تتفرع الشخصيات لـ«خارج المبنى» فنرى «شلة الفنانين» الذين يُصارعون الحب والحياة ويشتبكون بالسياسة والحرب ومنهم على بحر وأصداف، والشيخ زهار ووديع البساطي وفرح وجوني منصور.


وعلى طريقة الرسائل الهاتفية القصيرة، قدّم عبد الرحيم كمال أسباب وكيفية بداية جماعات الإسلام السياسي من خلال شخصية «الشيخ زهار» الذى ينتقد فى حلقات دروسه الدينية المطربين الجدد، وكلام الأغانى التى يقدمونها، وانتشار دور السينما والتليفزيون وما يبثه من مواد يراها «تفسد» أخلاق الشباب، وتلقى بهم فى «جهنم»، لكن الكاتب «المراوغ» يمزج هذه الشخصية بـ«تناقضٍ مقبولٍ».


فالشيخ زهار «العائش» بين معتقداته الدينية، وتشدده، وانتقاده لمظاهر الحداثة «الفاسدة» كما يراها، يُصاحب مجموعة من الفنانين ويعيش معهم طوال العمل الدرامى صراعًا وخناقاتٍ مع وديع البساطي، وانتقاداتٍ لـ«على بحر» وحياة المجون التي يحياها، ثم جوني منصور، الإنجليزي «الأصل»، الإسكندرانى «الهوى»، وصولًا لتقديم كيفية «تجنيد» الشباب، والضحك عليهم بـ«آيات الجهاد»، وحور العين في الجنة؛ لدفعهم لارتكاب أعمال إرهابية رأيناها فى الحلقة الأخيرة من المسلسل «تلميحًا» لا «تصريحًا».



كما يحمل المسلسل رسالةً قصيرةً مختلفةً عن شخصيتين شغلتا الصحافة والأمن ووقفتا وراء العديد من الجرائم «الغامضة» فى العشرينات بالإسكندرية، وهما «ريا وسكينة»؛ فبينما قدمت العديد من الأفلام السينمائية هاتين المرأتين «مجرمتين» تختطفان السيدات بمساعدة الرجال؛ ثم قتلهن والاستيلاء على المصوغات الذهبية؛ يقول مسلسل عبد الرحيم كمال من خلال حوارٍ قصيرٍ إنّهما كانتا يقتلان السيدات المتهمات بـ«المشّى البطّال»، أو اللاتى يدخلن فى علاقاتٍ جنسيةٍ حرامٍ مع عساكر الإنجليز، ما يعد وجهةَ نظرٍ جديدةٍ قد تتفق مع آراء سابقة لـ«تبرئة» ريا وسكينة من القتل بدافع «السرقة».


من نشأةِ وتصاعدِ «التطرفِ الدينىِ» لـ«ريا وسكينة»، يقدم عبد الرحيم كمال نقدًا مقبولًا لمن يكتبون التاريخ، واهتمامهم فقط بالشخصياتِ الرئيسيةِ فى الأحداث؛ الرؤساء والملوك والوزراء، وذلك من خلال شخصية «الخواجة الإسكندراني» جوني منصور، أحد أفراد «شلة» الفنانين على بحر ووديع البساطى والشيخ زهار، فهذا «الإنجليزي» يهتم فقط بكتابة «حكايات الناس البسيطة اللي مش بتتحكي» كما يقول في أحد مشاهد المسلسل، كما ينتقد طريقة كتابة التاريخ التى تعتمد على «هوى ومزاج» أصحابها.  


يؤكد عبد الرحيم كمال فى مسلسله «أهو ده اللى صار» دور الفن الراقى فى نقد ومواجهة النظم السياسية التى قد تكون فاسدة؛ من خلال «على بحر» الشخصية التي قدّمها باقتدار محمد فراج، والذي يشرع فى أحداث المسلسل على تقديم مسرحية تحمل عنوان «دبرنى يا وزير» رغم تحذيرات زميله «فرح» من أنّ هذا العمل الفنى قد يكون سببًا في جَرّ متاعب لهم، وبالفعل لا يسلم من «وشاية» وديع البساطى الذي يشعر بالغيرة ويُبلغ الأمن أنّ «دبرنى يا وزير» مسرحية تعيب فى الذات الملكية، وتهاجم «مولانا»، فيتم القبض على أبطال العمل.. فى إسقاط واضح على «الرقابة» على الأعمال الفنية، ومنعها من الوصول للجماهير.  



بـ«حكاياتٍ بسيطةٍ» رصد عبد الرحيم كمال «عشق» أهالى الصعيد لسماع «السيرة الهلالية» من خلال شخصية «زكي» أبو «نادرة»، الذى يقدم حكايات السيرة في «الموالد»، وهي بالفعل وقائع شاهدتها عندما كنت صغيرًا؛ بل إننى تمنيت تقديمها فى عمل درامى؛ وبالفعل حقق لنا تلك الأمنية السيناريست الكبير يسري الجندى فى مسلسل لعب بطولته أحمد عبد العزيز وأحمد ماهر ودلال عبد العزيز ويوسف شعبان فى التسعينات من القرن الماضى.


تتنقل الشخصيات من الماضى للحاضر، ومن القصور لـ«الصعيد»، ومن الغرف المغلقة على حكايات أصحابها، حتى نصل لرئيس تحرير جريدة «صوت اليوم» والذى يعنف أحد الصحفيين فى مشهد بـ«أهو ده اللى صار»، ويقدم له نصائح تدور حول الاهتمام بـ«صحافة الترافيك»، والموضوعات التى تتناقلها «السوشيال ميديا»، ثم نراه فى مشهد آخر يتلقى «رشوة» من رجل الأعمال «فاروق» أبو «سلمى»، والذى يُغذي الجريدة بالإعلانات، فى إسقاطٍ واضحٍ على كيفية سيطرة أصحاب رءوس الأموال على السياسات التحريرية في بعض الصحف، وتوجيهها لتناول موضوعاتٍ معينةٍ.


بالطبع تصعب علىّ رصد كل ما تناوله مسلسل «أهو ده اللى صار» من شخصياتٍ وقضايا؛ لكن انطباعاتي عنه لابدّ أن تشملَ الحوار الراقي في مشاهده «البديعة».


والحقيقة أنّ السيناريست الكبير عبد الرحيم كمال يتميز بـ«حوارٍ» مختلفٍ فى كل أعماله الدرامية؛ فالحوار عنده ليس مجرد «كلماتٍ وجملٍ» يتبادلها الأبطال لسرد الأحداث؛ لكنه فلسفة ونقد للحياة والمعنى الحقيقي للحب والحرية، وهو ما ظهر فى مشاهد هذا العمل «الأيقونة».. يقول على بحر فى مشهد بالمسلسل: «النّفر اللى مش حر.. نفر ميت.. ملوش عازة.. حُر تبقى عشت.. تعيش مش حر.. تبقى معشتش».. حوار بسيط يغنيك عن قراءة كتبٍ ومجلداتٍ عن المعنى الحقيقي لـ «الحرية».



أما طريقة سرد أحداث المسلسل، فتعتمد على التنقل بين الماضي والحاضر، والحقيقة أن كثيرًا من كُتاب السيناريو يبتعدون فى أحايين كثيرة عن اللجوء لطريقة «الفلاش باك» أو العودة للوراء فى كتابة أعمالهم الدرامية، خاصةً إذا كان هذا الأسلوب متبعًا في جميع حلقات العمل؛ اعتقادًا منهم أن ذلك يتسبب فى «لخبطة المشاهدين»، لكن عبد الرحيم كمال نجح فى السيطرة على شخصيات «أهو ده اللى صار»، من خلال تنقل سلس بين الأحداث، وهو نفس الأمر الذى فعلته مريم ناعوم عندما كتبت مسلسل «أبو عمر المصري» عن روايتين لـ«عز الدين شكرى فشير».. وبحسب معلوماتي فإن «ناعوم» دفعة «كمال» فى المعهد العالى للسينما.

والحقيقة أنه يجب توجيه التحية لأبطال العمل ومنهم روبى، محمد فراج، أحمد داود، سوسن بدر، هبة عبد الغني، هشام إسماعيل، أروى جودة، محمود البزاوى، أميرة العايدي، وآخرين.. لقد تسابقوا لتقديم الأفضل.

قد يجد القارئ أنني كتبت عن ما هو جميل فى «أهو ده اللى صار»، لكنى هكذا أراه، وما أريد التأكيد عليه أنّ عبد الرحيم كمال أصبح «علامةً مميزةً» فى كتابة السيناريو للتليفزيون، ودليلًا على أنّ النجاح الجماهيري لا يقتصر فقط على تقديم مسلسلاتٍ تغوص فى قضايا الجريمة والمخدرات أو حتى مشاهد «الأكشن» والعريّ؛ حتى عندما يكتب «عبد الرحيم» الدراما الصعيدية تراه مختلفًا عن الذين تصدوا لكتابة ذلك النوع من المسلسلات، هو يمزج التاريخ بالجغرافيا فى «خلطة غرائبية» جميلة تدفعك «طوعًا لا كراهيةً» على التهام مسلسلاته مشهدًا مشهدًا.. وفى انتظار ما بعد «أهو ده اللى صار».