أتون القدر «32»
وفجأة في ربيع سنة 1979 اندلعت الثورة الإسلامية الشيعية في إيران بدأت ثورة سياسية وطنية ضد حكم الشاه الدكتاتوري وكان الشاه قد تضخمت طموحاته في المنطقة ورغبته في اقامة سلاح نووي إيراني وإنشاء صناعات بتروكيماوية ضخمة بدل تصدير البترول كمادة خام، وكان كل ذلك يمثل خطرًا على مصالح أمريكا الاستعمارية في المنطقة فقامت بمساعدة الثورة ضد الشاه سرًا وساعدت الإمام الخميني الذي كان منفيًا في فرنسا على العودة من منفاه ليؤجج الثورة ضد الشاه وطبعًا لم يكن الخميني عميلًا لأمريكًا بل زعيمًا دينيًا شيعيًا.
وكلن كان رجوعه من منفاه لإيران يصب مباشرة في مصلحة أمريكا وفعلًا عاد الخميني وانتصرت الثورة ضد الشاه والتي كانت ثورة ديمقراطية وطنية في بدايتها ولكن سرعان ما اختطفها أنصار الخميني وقاموا بتصفية القوى الوطنية المعارضة الأخرى.
تمامًا كما كان يحاول التيار الديني حكمًا مبينًا على ما يعرف في الفقه الشيعي بولاية الفقيه الذي يحق للمرشد الأعلى فيه إلغاء أي قرار يتخذه البرلمان المنتخب من الشعب إن وجد فيه تعارضًا مع المذهب الشيعي.
لم تمضي سوى أشهر قليلة بعد وصول الخميني للسلطة حتى أدرك الأمريكان أنه يسير على خطى الشاه في محاولة اقامة دولة اقليمية كبرى ذات تسليح نووي وصناعة متطورة فبدأت تعد العدة لحصاره تمهيدًا لضربه.
في هذه الأثناء كان صدام حسين قد وصل للسلطة المطلقة في العراق بعد الخلاص من قريبه الرئيس أحمد حسن البكر، وبدأ صدام يعد نفسه ليكون الزعيم الأوحد في هذه المنطقة البترولية الغنية جدًا، وبدأ يوطد علاقاته بأمريكا ويعرض خدماته عليها كعميل يحمي مصالحها ظنًا منه أن أمريكا قد تسمح لأحد غيرها بالمشاركة في نهب موارد المنطقة، وبدأ صدام يتحرش بثورة الخميني ويتهمها بأنها معدة للتصدير لدول المنطقة الأخرى.
وبدأ العالم يسمع للمرة الأولى في التاريخ الحديث ما يسمى بالخطر الشيعي على السنة المسلمين علمًا بأن الشيعة في العالم الإسلامي لا يزيدون عن 10% من مجموع المسلمين في العالم الذين يدينون بمذاهب سنية وبدأ قادة الدول العربية التابعة لأمريكا وخصوصًا السعودية ومصر وبعد خلافة مبارك للسادات في حكم مصر بدأوا يرددون أكذوبة الخطر الشيعي وأصبح صدام حسين بطلهم الشعبي يدافع عما أسموه البوابة الشرقية للعالم العربي ضد الخطر الفارسي الشيعي بل المجوسي أحيانًا.
وفجأة في سبتمبر سنة 1980 هجم جيش صدام على إيران التي لم يكن حكم الملالي الذي أنشاه فيها الخميني قد استقر تمامًا ودارت بين إيران والعراق حرب طاحنة استمرت حتى أغسطس سن 1988 وقتل فيها أكثر من مليون جندي بخلاف ملايين الجرحى والأسرى واستنزفت فيها موارد الدولتين تمامًا وكان العرب وخاصة مصر والسعودية والكويت يساعدون صدام بالمال والسلاح باعتباره حامي بوابة العرب الشرقية أما أمريكا فكانت تساعد سرًا طرفي القتال إيران والعراق وتمدهما بالمعلومات المخابراتية حتى يستمر القتال ويستنزف الطرفان تمامًا.
وفي الكتاب الشهير «1999 - نصر بلا حرب» الذي صدر في مطلع الثمانينات من القرن العشرين يقول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكون في صراحة تتخطى أكثر درجات الوقاحة: «إن كانت هناك حرب لا يمكن السماح بأن يخسرها أحد الطرفين كما لا يمكن السماح بأن يكسبها أحد طرفيها فهي الحرب الدائرة حاليًا بين إيران والعراق فلو انتصر أي طرف سيفرض سيطرته على الخليج وتدمير مصالح الغرب لذلك فلا مفر من استمرار الحرب حتى يستهلك الطرفان بعضهما البعض فندخل نحن عندئذ لفرض السلام على الطرفين».
هكذا كانت أمريكا صديقة العرب تفكر وتخطط لمستقبلهم الزاهر.
ننتقل الآن للقضية الفلسطينية لب الصراع العربي الإسرائيلي فبعد نهاية القتال سنة 1973 ظلت الضفة الغربية بفلسطين وقطاع غزة تحت احتلال إسرائيل، وكان ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية يقود صراع شعبه من خارج فلسطين كلاجئ بإحدى الدول العربية وفشلت كل مشروعات التسوية الوهمية التي عرضها كيسنجر ثم برجسكي وزير خارجية كارتر فيما بعد.
واستمر الفلسطينيون يدورون في هذه الحلقة المفرغة حتى اندلعت أول ثورة شعبية حقيقية بعد حرب 1973 وهي التي عرفت بانتفاضة أطفال الحجارة سنة 1987 والتي بهرت العالم بسلميتها ونقاء شبابها ولم تجد أمريكا بدا من دفع إسرائيل للوصول لنوع من التسوية مع الفلسطينيين بمنحهم شكلًا صوريًا لدولة تنقذ ماء وجه العرب عمومًا.
ووصل ياسر عرفات في أوسلو سنة 1993 إلى أول اتفاق مع إسرائيل يعطيه حكم قطاع غزة ومدينة أريحا وهلل عرفات والفلسطينيون للاتفاق على أنه خطوة أولى نحو دولة فلسطينية مكتملة السيادة ولكن بيجين رئيس وزراء إسرائيل عندئذ حذر عرفات علنًا من أن يرفع تطليعات شعبه أكثر مما سيحدث وقال قولته الشهيرة التي مازالت سائدة إلى الآن: «سيحصل الفلسطينيون على ما هو أكثر من الحكم الذاتي ولكن ما هو أقل من الدول في جميع الأحوال».
وحتى سنة 2000 ظلت المقاومة الفلسطينية تتعثر صعودًا وهبوطًا واستعمل الفلسطينيون عندئذ أخطر أسلحتهم وهي العمليات الاستشهادية التي كان أفراد المقاومة يفجرون أنفسهم فيها وسط المطاعم والتجمعات الإسرائيلية.
وهزت هذه العلميات بالذات إسرائيل والغرب عمومًا هزًا شديدًا، وأطلقوا عليها أبشع الصفات وقامت إسرائيل بحصار حكومة عرفات المحلية في رام الله التي كانت بمثابة عاصمة مؤقتة للدولة الفلسطينية المستقلة وظل التوتر على أشده في الأرض المحتلة بينما تعبت قوات إسرائيل فيها قتلًا وتدميرًا وفشلت أخر محاولات أمريكا للتسوية بين إسرائيل والفلسطينين كان يتولاها الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون قبيل مغادرته الرئاسة في ديسمبر 2000، وكانت الشروط تتضمن قيام دولة فلسطينية على أرض الضفة الغربية وغزة تكون عاصمتها القدس الشرقية في المناطق التي يسكنها العرب كما يدير الفلسطينيون الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية مثل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وبدأ العرض براقًا إلا في نقطة حيوية واحدة:
يوقع عرفات في الاتفاق الذي سيدير المسجد الأقصى بمقتضاه على أن مباني المسجد الأقصى قائمة على أرض يهودية هي جبل الهيكل الذي يقع تحته هيكل سليمان كما يزعمون، لم يكن هذا الخلاف نظريًا بل جوهريًا إلى أقصى حد فإسرائيل كانت في حاجة إلى رمز ديني يجمع شتات شعبها ولذلك فالقدس يجب أن تكون يهودية صرفة كما أن مكة إسلامية صرفة والفاتيكان مسيحية صرفة لذلك يتعين مستقبلًا إزالة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة من قدس الأقداس وطبعًا لم يجرؤ عرفات على توقيع وثيقة تعترف بأن المسجد الأقصى مقام على أرض يهودية.
وفشلت الصفقة وخرج كلينتون من الحكم دون أن يحقق حلمه في الحصول على جائزة نوبل للسلام.