أمومة ملطخة بمآسي اكتئاب ما بعد الولادة.. معاناة «شيماء» مع القاتل الصامت
بسعادة ليس حدود استقبلت شيماء محمد (اسم مستعار)، خبر حملها؛ وهي التي لطالما حلمت بالأمومة، لم تكن تعلم ما ينتظرها من تجربة مريرة بل أكثر ألمًا على الإطلاق حولت سعادتها لطالما ادخرتها سنين طوال إلى سواد خيم على روحها، ورغم أنها مرت في أواخر أيام من حملها بمشاعر ضيق، إلا أنها تلفحت بتلك المشاعر وأسوأ منها بعد ولادتها بيوم واحد؛ لتكنشف أنها وقعت في فخ اكتئاب ما بعد الولادة، "بعد ولادة بنتي بيوم واحد حصل اكتئاب ما الولادة دا، وهو من أصعب الأحاسيس والآلام اللي مريت بها في حياتي كلها، حتى إنه أصعب من أي ألم جسدي مريت به عمري كله".
تكالبت المشاعر السلبية على الأم المسكينة، وكأنها انفردت بها داخل بئر عميقة حالكة الظلام، وحولت أفضل فترات حياتها إلى حيزٍ ضيق تتنقل فيه بين الحزن الشديد تارة، والبكاء المُستمر تارة أخرى، بل لم يغمض لها جَفن لمدة أكثر من 3 أيام متواصلة، وانتابتها حالة من الزُهد جعلتها تنقطع عن الطعام لفترات تصل إلى يومين، اللهم إلا كوبًا من الحليب، عله يثير شهيتها أو يعيد إليها شعورها بالجوع الذي فقدته بمجرد أن وضعت فلذة كبدها، وكأن "شيماء" صاحبة الروح المرحة تبدلت بأخرى لا روح "حسيت إن حد أخد شيماء الطبيعية وبدلها بشخص تاني، لدرجة إن أهلي كانوا بيعملوا لي الأكل اللي بأحبه وأنا ما كنتش بأحس بالجوع".
ويبدو أن اكتئاب ما بعد الولادة اللعين، لم يكن يرنو إلى تنغيص حياتها فحسب، إلا أنه تطلع إلى سلبها إياها، متخذًا اليأس سبيلًا، وإشعارها بأنها أُم فاشلة معدومة القدرة على تربية طفلتها التي تمنتها من الله، انقبض قلبها كلما نظرت إلى كل أُم لديها أكثر من طفل معتقدة أنها أفضل منها بكثيرٍ.
ضاقت جدران بيت "شيماء" عليها، وكأنها أسوار سجن جمعها وابنتها تحت سقفه، ولم يكن أمامها إلى التفتل في الشوارع بسيارتها علها تشعر بالحرية والبراح اللذين افتقدتهما، تحت براح السماء؛ ولكن أينما حلَّت خُطاها أتاها شبح اكتئاب ما بعد الولادة من فَجٍّ عميق، فكلما نظرت إلى الأمهات المتسولات في الشوارع شعرت بأنهن قادرات على رعاية أطفالهن، اللواتي يصطحبهن للتسول، في حين عجزت هي عن الاهتمام برضيعتها، ورغم المأسي التي تلفحت بها الأم، إلا أنها لم تنتابها أي مشاعر كُره لطفلتها، ولم تُفكر في التخلص منها أو أذيتها أو حتى التخلص من حياتها "رغم كل اللي مريت به إلا إني كنت ومازالت بأحب بنتي حُب مُبالغ فيه، ولم أمر بأي ميول انتحارية".
ثلاثة أشهر من المعاناة والمشاعر البشعة لعبت بأعصابها -إن لم تكن دمرتها- فشل فيها اكتئاب ما بعد الولادة أن يدفع الأم إلى الانتحار أو التخلص من طفلتها أو حتى أذيتها؛ إلا أنه لم يفشل في أن يجعلها تتمنى الموت لتخلُص من حياة أشبه بالموت، بل الموت أفضل منها "كنت بأدعي ربنا أنه ياخدني علشان أخلص من العذاب اللي أنا فيه".
بعد أن أمضت "شيماء" فترات طويلة في مأساتها، بدأ الفرج يلوح تدريجيًا، بمجرد مرور الثلاثة أشهر الأولى من أزمتها، بفضل أنها لم تستسلم فيها لذلك "القاتل الصامت" وألاعيبه، وقررت إكمال الماجستير، وتعلُم صناعة الأكسسورات، بجانب عملها الذي كان أحد بوارق النور في بئرها المظلمة، ونجحت في التغلُب عليه، وإن كان بين الحين والآخر يطل عليها بأفخاخه عله ينجح في انتكاسها "الحمد لله شغلي ساعدني في إني أتعافى بالإضافة لإني كملت ماجستير واتعلمت أصنع أكسسورات".
لم يكن اكتئاب ما بعد الولادة وحده سببًا في آلامها، ولكن آلامها اتهامات الكثيرون لها ببعدها عن الله، وأن إيمانها ضيعف، رغم أنها كانت قريبة من الله لم تترك فرضًا ولا فرصةَ للذكر.
داخل بيتها تجلس الآن "شيماء" وابنتها، تحت سقفٍ واحد، يتبادلان المحبة ويبث كلًا منهما في نفس الآخر الطمأنية والأمان، وبات تجربة القاتل الصامت بمشاعره القاسية في طيات الماضي، ولكن مازال أثر اتهامها بالبُعد عن الله والاستهانة بمرضها، تاركًا علامة مؤلمة في نفسها، جعلها تشفق على كل من يمُر بتجربتها ليس لبشاعتها ولكن لبشاعة البشر.