على الهواري يكتب: قيمنا وقيم بايدن
دائما تتباهي وتتفاخر الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بما يسمى بـ«القيم الأمريكية» و«القيم الغربية»، ويطلقون على أنفسهم «العالم الحر»، والعالم «الديمقراطي الليبرالي».
يتباهون ويتفاخرون أن لديهم دولة مدنية ترتكز على نظام سياسي قائم على، التعددية السياسية والحزبية والثقافية والدينية، والفصل بين السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتداول السلمي للسلطة، والمجالس النيابية المنتخبة، والفصل بين الدين والدولة وبين الدين والسياسة، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة.
يتفاخرون ويتباهون أن لديهم نظام قائم على، العدالة والمساواة والحرية المطلقة، الشعب فيه مصدر السلطات.
يتباهون ويتفاخرون، أن لديهم نظام سياسي قائم على الديمقراطية الليبرالية، التي هي أعظم شكل من أشكال الحكم التي توصلت إليها البشرية.
في الحرب الروسية الأوكرانية، قسم الرئيس الأمريكي جو بايدن العالم إلى قسمين، نظم ديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة وأوربا وكندا واسترااليا واليابان والهند وكوريا الجنوبية، وبعض الدول في أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ونظم استبدادية بقيادة روسيا والصين وكوريا الشمالية وباقي دول العالم، بما فيها الدول العربية، ما عدا العراق.
وفي قمة الديمقراطية التي دعا لها الرئيس الأمريكي جو بايدن في شهر ديسمبر الماضي، وشارك فيها 100 دولة على مستوى العالم، تعتبرهم الولايات المتحدة من الدول الديمقراطية، والتي كانت تهدف إلى تسليط الضوء على الجهود المبذولة لمواجهة الاستبداد ومحاربة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان، لم يتم توجيه الدعوة لأي دولة عربية أو إسلامية لهذه القمة سوى العراق، مما يؤكد أن الولايات المتحدة والغرب ينظرون للدول العربية والإسلامية على أنهم دول استبدادية وديكتاتورية، خارج العالم الذي لا يؤمن بالقيم الأمريكية والغربية.
وفي الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية، دار سيجال بين بايدن وولى العهد السعودي محمد بن سلمان عنوانه «القيم الأمريكية».
حيث قال مصدر سعودي مسؤول لقناة "العربية" السعودية، إن الرئيس الأميركي، جو بايدن، تطرق خلال لقاءه مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى "القيم المشتركة"، فأجابه ولي العهد بأن "كل دول العالم - وبالذات الولايات المتحدة والمملكة - لديها العديد من القيم التي تتفق بشأنها وعدد من القيم التي تختلف فيها، إلا أن القيم والمبادئ الصحيحة والجيدة دائمًا ما تؤثر على شعوب الدول الأخرى، بالذات في الوقت الذي نرى فيه ترابطًا بين شعوب العالم بشكل غير مسبوق".
وتابع: "في المقابل، فإن محاولة فرض هذه القيم بالقوة له نتائج عكسية كبيرة، كما حدث في العراق وأفغانستان والتي لم تنجح فيهما الولايات المتحدة. ولذا فإن من المهم معرفة أن لكل دولة قيمًا مختلفة ويجب احترامها. ولو افترضنا أن الولايات المتحدة الأميركية لن تتعامل إلا مع الدول التي تشاركها القيم والمبادئ 100% فلن يبقى للولايات المتحدة من دول تتعامل معها سوى الناتو، ولذا يجب علينا التعايش فيما بيننا بالرغم من الاختلافات التي نعيشها".
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل القيم التي تتفاخر وتتباهي بها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب تختلف عن القيم التي يؤمن بها المسلمون؟.
هذا السؤال الكبير يجيب عنه الدكتور عبد المعطي بيومي، استاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، في كتابه الصادر عن مكتبة الأسرة، والذي يحمل عنوان«الإسلام والدولة المدنية»،حيث توصل بالأدلة الشرعية من القرأن والسنة في هذا الكتاب على أن هناك أسس رئيسية تقوم عليها الدولة المدنية في الإسلام منها، الأمة مصدر السلطات، والفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، والسلطة التنفيذية عقد تراضى واختيار.
حيث يقول في فصل تحت عنوان«الأمة مصدر السلطات»، « كان على رأس النقاط المهمة أو المحددات التي تحدد منطلق السلطة المدنية في الدولة الإسلامية منذ نشأت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم هي أن الأمة مصدر السلطات، بحيث لا تختلف هذه الدولة المدنية الأولى في أسسها ومعالمها عن أسس ومعالم الدولة الدولة الحديثة في عصرنا، بل تتفوق عليها، وقد سبقت عصرنا بخمسة عشر قرنا كاملة منذ بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يؤسس الدولة المدنية في المدينة».
وفي فصل تحت عنوان «الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي»، يقول، أنه لأول مرة في التاريخ الإنساني ينشأ من الفصل توازن، ويترتب على تحديد ما هو من أمور الدين وما هو من أمور الدنيا توازن بين أمور الدولة جميعا، توازنا عادلا يحقق الاستقرار والتقدم دون خلط في الرؤية، قد ينجم عنه خلط في التشريع والتطبيق.
ويضيف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من أسس لهذا الفصل بين أمور الدين والدنيا، في الاطار الإسلامي الشامل الذي يجمع بينهما، وذكر الكثير من الأمثلة التطبيقية التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، والتي تؤكد على الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وهي نظرية الفصل بين الدين والدولة التي يتباهى ويتفاخر بها الغرب الأن.
وعن انتخاب الحاكم في الإسلام، قال في فصل تحت عنوان« بين سطوة المرشد وسلطة الفقية»، أن ولاية الأمر هي ملك للمسلمين، وحق للأمة أن تولي من تشاء فإذا بايعت، بأي شكل من أشكال البيعة، انعقدت الشرعية لولي الأمر، وإلا فلا شرعية إلا لمن تبايعه الأمة، وهذا يتطابق مع مبدأ التداول السلمي للسلطة في الدولة المدنية الحديثة، التي يتباهي ويتفاخر بها الغرب.
وفي فصل تحت عنوان«الفصل بين السلطات»، يقول المؤلف«يظن الكثيرون أن هذا الفصل بين السلطات ليس من نتاج الحضارة الإسلامية، وإنما هو من انجاز الحضارة الغربية، وربما يستغربون أن هذا ليس صحيحا والصحيح أن الدولة الإسلامية الأولى التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقت إلى التمييز والفصل بين هذه السلطات الثلاثة، وأن الحضارة الغربية وإنما أخذت هذا الأساس من أسس الدولة الحديثة، عن الدولة الإسلامية في الأندلس، واستمدتها من مصادر الحضارة الإسلامية ووثائقها الأولى، وما كان مفكرو الغرب ليعرفوا هذا الفصل بين السلطات إلا عن طريق هذه المصادر والوثائق الإسلامية»، ضاربا عددا من الأمثلة على تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ، منها ما حدث في معركة أحد، عندما قام الرسول صلى الله عليه وسلم باستشارة اصحابه، هل يخرج المسلمون لقتال الكفار خارج المدينة أو يتحصنوا بالمدينة فإذا دخل المعتدون قاتلهم المسلمون قتال الشوارع، واختارالرسول صلى الله عليه وسلم ومعه بعض كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار التحصن بالمدينة وقتال الشوارع، ولكن رأي الأكثرية كان هو الخروج من المدينة للقتال، وقد نزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأي الأكثرية وأختار الخروج من المدينة للقتال.
وفي فصل تحت عنوان «استقلال القضاء»، يقول المؤلف: منذ وقت مبكر من تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، حدد في الوثيقة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين فئات المجتمع المدني في ذلك الوقت، الأوس والخزرج والمهاجرين والأنصار واليهود، المرجعية القضائية عند حدوث خلاف، حيث جاء فيها بالنص« وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم»، هكذا حددت الوثيقة المرجعية في إقامة العدل ونفي الجور أو الظلم، كما ارسى الرسول صلى الله عليه وسلم معالم استقلال القاضي في أول دولة إسلامية، بوصف استقلال القضاء معلما وأساسا من معالم وأسس الدولة الراقية، وضمانة من أهم الضمانات لانتشار العدل بين الناس واستتباب الأمن على أساس من هذا العدل.
وفي فصل تحت عنوان «المواطنة»، يقول: أن الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطت حق المواطنة لجميع مواطنيها، الذين كانوا يختلفون بطبيعة الحال من الناحية الدينية، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين مواطني دولة المدينة المنورة، مسلمين أو يهودا.
وفي فصل تحت عنوان«سيادة القانون»، يقول المؤلف: سيادة القانون لازمة من لوازم الدولة الإسلامية، والقاعدة العامة في سيادة القانون في الدولة الإسلامية الأولى قوله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس.. كلكم لأدم، وأدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
وأضاف: وكان لعمر بن الخطاب مواقفه المشهورة التي تعد من عيون التراث القانوني الإسلامي في الدولة الإسلامية الأولى، لإقامة العدل، وسيادة القانون على كل مواطني الدولة دون تمييز، فهو القائل « اجعلوا الناس عندكم سواء، قريبهم كعبيدهم، ولعبيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى».
وفي فصل تحت عنوان «التعددية والحوار»، يقول المؤلف: الدولة الإسلامية التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الدولة الأولى للعالم القديم التي أسست للتعددية والحوار وقبول الأخر نظاما يقوم على التسامح، وعلى إسباغ الوضع الإنساني والقانوني للتعددية، فالتعددية سنة كونية في القرأن الكريم لا سبيل إلى إزاحتها من المجتمعات الإسلامية.
أول دستور في التاريخ الإنساني
المستشرقون في أمريكا والغرب يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع أول دستور في التاريخ، وهو دستور المدينة، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها الإنساني، إن هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، حيث صارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.
يقول المستشرق الروماني جيورجيو: “حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده”.
هذه الوثيقة الدستورية احتوت كل المبادئ التي ترسخ التسامح والتعايش والسلم داخل المجتمع الواحد بين كل أفراد المجتمع باختلاف أعراقهم ودياناتهم وتوجهاتهم على أساس المواطنة، مثل مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، ومبدأ حرية الاعتقاد، ومبدأ العدل، ومبدأ المساواة، ومبدأ المواطنة، وغيرها من المبادئ الإنسانية، التي تتفوق على حقوق الإنسان التي وردت في المواثيق الدولية والدساتير الغربية التي يتباهى ويتفاخر بها الغرب الأن.
باختصار، كل القيم التي يتباهى ويتفاخر بها بايدن والزعماء والقادة والفلاسفة الغربيين جاء بها الإسلام منذ أكثر من 1400 عام، وزاد عليها، ولكنه وضع ضوابط لبعض الحقوق مثل الحرية، من أجل الحفاظ على أمن واستقرار وتماسك المجتمعات.
وكما جاء في كتاب «الدولة المدنية بين الإسلام والغرب»، للدكتور محمد الشحات الجندي، استاذ الشريعة الإسلامية بجامعة حلوان، فإن إطلاق الحرية الدينية من كل قيد، يفتح الباب أمام المصادمات والمواجهات بما يخل بالتماسك المجتمعي والسلام والأمان النفسي والتوحد الاجتماعي والوطني.
وضرب مثلا بحرية العري والشذوذ، فقال: تمضي المدنية الغربية على طرق اختراق الخصوصي الدينية والفطرة الإنسانية بسرعة جنونية نلحظه في في إطلاق صور من الحريات التي تعيد الإنسان إلى عصور البداوة كما في حرية العري والشذوذ.
كما أن أغلب الدول العربية والإسلامية وقعت على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أو ما بات يعرف باتفاقية «السيداو»، وهي اتفاقية دولية تابعة للأمم المتحدة، لكنها تتحفظ على عدد من بنود هذه الاتفاقية، التي تتعارض مع الخصوصية الثقافية للدول العربية والإسلامية.
ومجمل تحفظات الدول العربية والإسلامية، يتعلق بتنظيم تشريعات الأسرة كالحضانة والوصاية والولاية والقوامة والإرث وجنسية الأطفال وزواج الأطفال وتعدد الزوجات والحق في الطلاق والنفقة وزواج المسلمة من غير المسلم، وتمثلها المواد 2، 9، 15، 16، 29 في الاتفاقية.
وكلنا يذكر المواقف الخالدة للخلفاء الراشدين، أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن عبد العزيز، والتي تؤكد على أن الإسلام هو الذي وضع اللبنة الأولى للقيم الإنسانية العظيمة ولحقوق الإنسان التي يتباهى ويتفاخر بها بايدن وقادة وفلاسفة أمريكا والغرب.
فمن ينسى مقولة أبو بكر الصديق بعد البيعة:«لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، ثم قال: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإ ن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
ومن ينسى مقولة عمر بن الخطاب الخالدة، لوالي مصر عمرو بن العاص: « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟».
ومن ينسى مقولة الخليفة العادل، عمر بن عبد العزيز، صنو جده العظيم عمر بن الخطاب، الذي كان مثلا يحتذى به في تمسكه بالعدل وكراهية الظلم:«والله، لو لم ينهض الحق ويدحض الباطل إلا بتقطيع أوصالي وأعضائي، لأمضيت ذلك وأنا سعيد».