مذبحة الأشجار!
على حافتيه نمتْ وترعرعت أشجارُ الكافور الضخمة باسقة الأغصان، كانت أعطافُ تلك الأشجار كلما هب النسيمُ تتحرك وتتمايل تمايل النشوان.
اصطفت علي تلك الأغصان عنادلُ تشدو، وبلابل تُغرد، وطيور أخري مختلفة الأشكال والألوان، اعتادت أن تصدح بأغاريدها العذبة، فتملأ الأفق سحرًا وجمالًا، تطرب له النفس ويطمئن إليه الفؤاد.
وفي منظر آسر كانت تلتقي أغصانُ تلك الأشجار، حتى إنه ليُخيل لمن يرنو إليها بناظريه أنه يخترق أنبوبا لا يصل إلى نهايته.
نبتتْ إلى جوار تلك الأشجار (نجيلةُ) خضراء أشبه ببسط سندسية تفصل بين الطريق الأسفلتي الأسود، وصفحة مياه الرياح الفضية.
على تلك البُسط الوثيرة، اعتاد الناسُ الجلوس، للاستمتاع بظلال الأشجار، ومنظر قوارب الصيد، و(معدية) الركاب التي تجري على صفحة الرياح، فيصافحها بخريره الرقراق.
فجأة، ودون اكتراث لهذا الجمال، وبلا سابق إنذار، امتدت إلى تلك اللوحة الساحرة يدٌ آثمة لا تُجيد فن الرسم، فطمست معالمها وشوهت جمالها، إذ قامت بعدما تجرد قلبُ صاحبها من كل معاني الرحمة بقطع تلك الأشجار بحجة أنها بلغت أرذل العمر، وصارت تُهدد المارة والسيارات علي خط (12) والطريق الموازي له الرابط بين مدينة بنها والقناطر الخيرية مرورا بعدة قري، عانت تشويه المكان.
وبالعقل لو سلمنا بصحة ما يدعيه المتسببون في تلك المذبحة المروعة من أن تلك الأشجار قد تجاوزت عمرها الافتراضي، وأنها صارت مصدر خطورة، فإن السؤال:
لماذا تقاعسوا تلك الفترة الطويلة عن زراعة أشجار جديدة لتحل محل القديمة؟
ولماذا تفتقر قراراتُ كثير من المسئولين إلى التخطيط الجيد والدراسات المُسبقة؟
لماذا لا يكون التحركُ واستنفار القوي واستنهاض الهمم إلا بعد وقوع الكوارث؟
إن أزمتنا أننا نؤصل لنظرية (التفاضل) ونطعن نظرية التكامل بسكين باردة، بمعنى أن اللاحق لا يُكمل ما بدأه السابق؛ ظنا أن ذلك عيبٌ، فينبري يهدم أفكار وتصورات من سبقه، غير مُكترث بما أنفق عليها من جهد ومال، ويبدأ هو من جديد، والنتيجة أننا نظلُ (محلك سر) أو قفزة في المكان !
وهو ما يُذكرني بقول القائل:
متي يبلغُ البنيانُ يوما تمامه.. إذا كنتَ تبني وغيرُك يهدم؟
إن نهضتنا كأمة لن تكون إلا إذا غلبنا مصلحة العامة علي مصلحة الفرد، وتقلص مفهومُ الأنا، وانزوت النرجسية، وتعاظم مفهومُ المواطنة والانتماء.
إن كثيرًا من دعاة الإصلاح والمُنظِرين يرفعون شعار: ( فيها لأخفيها) والمعني أنه ربما وصل الواحد منهم ليله بنهاره يُبرزُ محاسنَ مشروع ما، ويُعدد مناقبه؛ على أمل أن تُسند إليه مهمة إدارته، فإذا اختير غيرُه لإدارة هذا المشروع، سقط عن وجهه القناع، وصار ألدّ أعدائه، بعدما كان يُسبحُ بحمده، وانبرى في العالمين يُعدد مساوئه وعيوبه، ويُلهب أنصاره بسياط الشتم والتجريح!
إن مذبحة الأشجار التي وقعت على جانبي الرياح التوفيقي، وعلي سائر تُرع الجمهورية جريمةٌ في حق وطن أسند مهمة إدارة المرافق والمنشآت إلى أشخاص أغفلوا دورهم وبدلًا من أن يحرصوا على جمال مصر أسهموا في إفساد ثرواتها الخضراء، وتقبيح صورتها.
إن قطع هذه الأشجار بتلك الهمجية- بالإضافة إلي أنه يهدد بانهدام الجسور، وتصدع الطرق، وكثرة الحوادث- حوَّل الأرض على حافتي تلك المجاري المائية، إلي صحار قاحلة، أخفت جمال الريف، الذي كنا نتغني به أمس.