علي جمعة يوضح ماذا يفعل التجلي الإلهي؟
قال الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إن الحضارة الإسلامية تعتني بالأكوان، وترأف بالحيوان حتى إنها تنشئ مساقي للكلاب.
ماذا يفعل التجلي الإلهي؟
وتابع علي جمعة من خلال صفحة التواصل الاجتماعي فيس بوك: لم تقتصر المسألة على رعاية الإنسان واحترامه، بل وصل إلى رعاية الكلاب، وجعل الشرع الشريف من أسس حضارته أن: (امرأة دخلت النار في هرة؛ حبستها)، وأن: (رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه، فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له، فأدخله الجنة)، ففهم المسلمون من هذا فهمًا، وعرفوا - وعرفنا معهم - المعنى الكامن وراء ما كان بجوار بيت القاضي - وراء سيدنا الحسين - عندما نذهب لنجد مساقي للكلاب والحيوانات.
وأكمل: كان علي الخواص - رضى الله عنه - وقد كان رجلا عاميا، لكنه كان من كبار أولياء الله الصالحين، وكان يحفظ القرآن، كان - رحمه الله - يذهب بالليل ويعبد الله بأن ينظف مساقي الكلاب، للكلاب الهائمة في الشوارع، وكان يذهب إلى دورات المياه لينظفها في المساجد، ويخرج لينظف مساقي الكلاب. مثل هذا الإنسان كيف كان يفكر؟ وما الذي كونه مثل هذا التكوين الإنساني الراقي المرهف المفعم بالإنسانية والشعور الرباني؟ ما الكامن وراء هذا التصرف؟ أرى أن وراء هذا كله إنسان آمن بالرحمن، إنسان آمن بالإنسان، إنسان آمن برعاية الأكوان، وأن هذا هو الكامن وراء الحضارة الإسلامية "الإيمان بالرحمن، الإيمان بالإنسان، الإيمان برعاية الأكوان".
وأرف علي جمعة: هيا بنا ننظر لاستطلاع الكامن من وراء هذه الحضارة التي رأيناها وسمعناها، وعشنا في بعضها، وغاب عنا الكثير منها.
وقال: إنسان آمن بالرحمن فماذا حدث؟ آمنت بأن هناك إلها واحدا، إذًا فالوحدانية كانت مستقرة في عقيدة هذا الإنسان، الذي أبدع هذه الحضارة، هذه الوحدانية اجتمعت أيضا مع المفارقة، فـ "الرب رب والعبد عبد، وهناك فارق بين المخلوق والخالق"، فهذه المفارقة منعت أن يعتقد الإنسان قداسة الأكوان، ومنعت أن يعتقد الإنسان الحلول والاتحاد، وأن يعتقد الإنسان أنه ليس هناك إله آخر يشارك الله تعالى ملكه في هذا الكون وما وراء هذا الكون، والمفارقة هنا معناها أنه ليس حالا في الكون ولا في شيء منه، ولذلك فليس هناك جزء إلهي في هذا العالم؛ لأن الحق سبحانه منزه، ولا يطرأ على ذاته المقدسة تجزؤ.
وأردف: أثرت كثيرا هذه العقيدة في التعامل مع الكون، الكون الذي آمن ذلك الإنسان برعايته، وبأنه هو الذي سيرعى هذا الكون.
وأوضح: آمن ذلك الإنسان بالرحمن، فآمن بالوحدانية، وآمن بأنه - سبحانه - إله مفارق، والمفارق هنا مبحث فيه تفصيل في علم الكلام، أنه: "لا متصل ولا منفصل، ولا خارج الكون ولا داخل الكون، لأنه ليس كمثله شيء، ولأنه ليس كالأجسام، ولأنه سبحانه منزه عن أوصاف المخلوقات، ولأنه سبحانه وتعالى رب ونحن عباده، والله تعالى كان ولم يكن شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان".
وشدد تلك المعاني هي خلاصة العقائد التي ندرسها في الأزهر، ونتصور فيها ما نعبد ؛ نعبد إلها عظيما منزها عن حلوله بالكون، حتى لا يكون جزء من الكون مقدسا قداسة إلهية تمنعنا من التعامل معه. هذا هو عقل المسلم الذي سعى في الأرض وعمرها، وأنشأ، وبنى، وفعل، وترك وكذا إلى آخره، هذا هو الكامن في الحضارة الإسلامية.
ولفت إلى أن آمن الإنسان عندنا أيضا بالتجلي الإلهي، وبأن الله - سبحانه وتعالى - وراء كل شيء: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ }، { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } .
فَيا عَجَبًا كَيفَ يُعصى الإِلَهُ * أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ * تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ * وَتَسكينَةٍ أَبَدًا شاهِدُ
ماذا يفعل التجلي الإلهي؟
وأوضح علي جمعة في بيان ماذا يفعل التجلي الإلهي؟ يجعل الإنسان مستحضرا لله في كل شيء، في كل سكنة، في كل حركة، وعندما تقرأ كتاب ( الحكم ) للإمام ابن عطاء الله السكندري - رحمه الله - تجدها كلها مبنية على هذا، على أنه لا حول ولا قوة بي ولا لي، وإنما الحول والقوة لله وبالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وأن الأمر كله بيد الله، ومع ذلك فإن الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب جهل، وعندما أراد النبي ﷺ أن يخرج إلى أُحد ( خالف بين درعيه ) أخذا بالأسباب، فأخذ ﷺ بالأسباب ليعلمنا المنهج الأمثل في التعامل مع كون الله تعالى، حتى علمنا أن حقيقة التوكل الأخذ بالأسباب، فقال لنا ﷺ: ( لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا )، قال العلماء: فهي تغدو وتروح أخذا بالأسباب، لم تمكث في وكناتها، بل أخذت بالسبب، فراحت ورجعت، فرزقها المولى - سبحانه -، فقوله: ( تغدو وتروح ) يشير إلى وجود حركة، فهي إذًا لا تترك الأسباب، وكأن الحق سبحانه يربي الأكوان كلها على التأدب بأدب الله في الأخذ بأسبابه، التي أوجدها وخلقها في كونه، ويعلمنا أيضا: أن المؤمن رغم أخذه بالأسباب، إلا أنه لا يعتمد عليها، فالفلاح يلقي الحب، ثم يدعو ويقول: ( يا رب )، هذا هو المسلم الذي أقام حضارة، يؤمن فيها بالتجلي الإلهي.
وشدد على أن التجلي الإلهي مبني أيضا على أن الحق سبحانه له أسماء، وأسماء الله الحسنى مائة وثلاثة وخمسون اسما في القرآن الكريم، ومائة وأربعة وستون اسما في السُنّة المطهرة، فمع حذف المكرر منها تكون أسماؤه - سبحانه - مائتين وعشرين اسما، وهي تمثل: (منظومة القيم ) التي عاشها المؤمنون، بعضها للجمال، وبعضها للجلال، وبعضها للكمال، فالجمال مثل: ( الرحمن، الرحيم، العفو، الغفور، الرءوف )، والجلال مثل: ( المنتقم، الجبار، العظيم، شديد المحال، جل جلال الله )، والكمال: (الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الضار، النافع، المعز، المذل، السميع، البصير )، وهنا أيضا ما يسمونه: (الأسماء المزدوجة ): ف ( الأول الآخر ) معا كلاهما اسم، و(الضار النافع ) اسم، و( الظاهر الباطن ) اسم؛ لأنه بهما الكمال المطلق لله رب العالمين.
واختتم علي جمعة قائلا: هذه المنظومة التي توصلك إلى: التجلي، والتحلي، والتخلي، الأول: أن تخلي قلبك من القبيح، ثم تحليه بالصحيح، ثم يحدث التجلي، فيتجلى الله بأنواره وأسراره على قلبك، فتخرج من دائرة الحيرة إلى دائرة الرضا { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .