صبري عبد الحفيظ يكتب:
بزنس الصدمة والترويع في مستشفى مصر الدولي
بعد انتظار دام لنحو ثلاث ساعات، في أروقة مستشفى مصر الدولي بالدقي، المزدحم جدًا، بدرجة تفوق مستشفيات الحكومة، غير أن الفارق بينهما هو النظافة في الطرقات والحمامات، وكثرة أعداد فريق العمل المخصص لمساعدة المرضى وذويهم، "بس كله من دقنه وافتله".
كانت وجهتنا (أنا اعتباري المريض وزوجتي باعتبارها الرفيق والسند)، الدكتور أحمد طلعت الغنيمي، استشاري أمراض المخ والأعصاب.
نادت الممرضة على اسمي، وقفت مستندًا على مرفق زوجتي، ودخلنا إلى غرفة الكشف، حيث يجلس الطبيب في نهايتها على مكتب صغير، وسألني بوجه متجهم:
ـ مالك؟
ـ أنا: امبارح صحيت من النوم حوالي الساعة واحدة صباحًا، وأنا حاسس بدوخة شديدة، لدرجة أني وقعت من على السرير، وكلما أحاول الوقوف أسقط مرة أخرى، كأنني متعلق في مروحة سقف.
لم يتحرك الطبيب الاستشاري من مكانه، لم "يفز" من على كرسيه، لم يرفع سماعة الدكتور من حول عنقه، "مكنش فيه سماعة أصلًا"، لم يطلب مني أن أستلقي على السرير، لتوقيع الكشف، لم يطلب مني أن أكح، ولا أي شيء، وكأني كنت أشكو مرضى لصديق على القهوة.
وبدون مقدمات وبلهجة حادة وملامح صارمة، قال الطبيب الغنيمي: انت لازم تتحجز فورًا في الطوارئ.
منذ الليلة السابقة على زيارتي للمستشفى، كنت أعاني من حالة الدوار، لكني أستطيع الوقوف على قدماي دون مشاكل، وأستطيع الحركة والسير ولكن بحذر، خشية زيادة حالة الدوار.
ـ اقتحم الخوف والهلع صدري بقوة، وشعرت أن أعصابي تخدرت: ليه يا دكتور، خير فيه أيه؟
ـ الطبيب: لازم تتحجز حالا، أنت عندك جلطة في المخ.
لم أعد قادرًا على القيام من مكاني، وقد الصفر لوني، وسألته: إزاي يعني جلطة، يعني فيه إيه؟
ـ الطبيب وقد ازدادت ملامحه صرامة: أنت شغال: إيه؟
ـ أنا: صحفي
الطبيب: بقولك عندك اشتباه في جلطة بالمخ، وفيه خطورة على حياتك، ولازم تتحجز في الطوارئ حالًا.
لم يستغرق الكشف سوى أقل من دقيقتين، لم يتحرك فيها الطبيب من على كرسيه، "وقال ايه استشاري قال"!!، وبينما أحاول النهوض من مكاني، نادت الممرضة على الضحية التالية.
دخلت المستشفى وأنا أمشي على قدماي، ولكني لم أعد قادرًا على القيام من علي الكرسي، بينما تقدمت زوجتي مني لتساعدني على النهوض، كنت أشعر أنني أصابني شلل، الخطوات بطيئة والجسد ثقيل جدًا، لكني وجدت نفسي مجبرًا على أن "أصلب طولي"، عندما نظرت إلى زوجتي ووجدتها في حالة انهيار، تبكي بحرقة، لكنها تكتم صوت الأنين، ولاحظ ذلك بعض المرضى وذويهم، وقام "يطبطب عليها"، ويدعو لي بالشفاء.
كانت المسافة من حجرة الكشف بالدور الأول، وقسم الطوارئ بالدور الأرضي، بضعة مترات، إلا أنني شعرت وكأنها خمسين ألف متر مما تعدون.
لم قادرًا على المشي، وأصبحت قدماي تجران على الأرض، وصوت جر الحذاء مسموعًا، والدنيا كلها تدور بي، ورأسي تنتابه أفكار النهاية: من لأفراخي الصغار من بعدي؟ أو على الأقل من لي ولهم بعد الإصابة بجلطة في المخ؟ هل ستتحمل النقابة كل هذه المصروفات؟ هل ستحمل الرعاية الطبية بالتلفزيون نفقات المستشفى، وهي المكبلة بالديون حتى ألغت المستشفيات والصيدليات التعاقد معها؟
هل وهل وتكاثرت الهلات على رأسي.
مهلًا، فالأسوأ قادم.. وهل هناك أسوأ من قول الطبيب الاستشاري، إني عندي جلطة؟ الأسوأ والأضل سبيلًا ما قاله لي موظف قسم الطوارئ.
لما نزلنا إلى الطوارئ، وفي يدي خطاب الدكتور الغنيمي، وهو اسم على مسمى "فهو يجيد اغتنام المرضى بعد بث روح الصدمة والهلع والترويع في نفوسهم"، طلب مني موظف الاستقبال دفع 20 ألف جنيه تحت الحساب!
اصفر لوني وجهي أكثر، وتحطمت نفسي تحطيمًا، وقلته له بهدوء من يخاف من تفاقم "الجلطة" بعيد عن السامعين: انا تبع نقابة الصحفيين، وفيه تعاقد معاكم.
رد الموظف: يبقى تدفع 15 ألف جنيه تحت الحساب.
قلت له: لا أنتم كدة هتجيبوا لي جلطة بجد.
ولم استطع تمالك نفسي، وزعقت، وزاد انهيار زوجتي، "يا حسرة يعني موت وخراب ديار"، بينما ظل الموظف متماسكا بهدوئه، وقال: معنديش غير كده.
اتصلت بالأستاذ المحترم صاحب الخلق الرفيع (عبد الرحمن) موظف العلاج في نقابة الصحفيين، ورويت له ما حدث، وتفضل بإرسال خطاب تحويل للمستشفى، وتسلمه الموظف، مع تأكيده على ضرورة دفع مبلغ 15 ألف جنيه، وزاد: وكده هنحاسبك بأسعار النقابة، ولو لك فلوس هتخدها وانت ماشي!!
"كل شيء انكشفن وبان": "االحاج لامؤخذة الدكتور الاستشاري"، بيوقع الضحايا، والطوارئ تستلمهم مقشرين زي حالاتي.
كانت زوجتي في حالة انهيار تام، تبكي بحرقة، وقالت: فاكر الغويشة بتاعت الخطوبة، لسه معايا، هأروح ابيعها، وأجي ندفع الفلوس وتدخل المستشفى.
بعد ما "فهمت الفولة" هدأت أعصابي، وقلت لزوجتي: غويشة أيه، اصبري عليها، هما دول تكفيهم غويشة؟!!!، دول ميكفهومش محل دهب، خلي الغويشة لوقت عوزة دي حتى مكتفيش مبيت ليلة في المستشفى دي، وتعالي نروح مستشفى الشبراويشي، تبع التلفزيون، هيخدوا البطاقة والكارنيه، وأكشف عندهم. والحمدلله نفدت بالمخ والكبدة، وكله ببركة دعاء الوالدين والصالحين.
خطوات بسيطة، وكنا في مستشفى الشبراويشي، ودخلت إلى الطبيب، وكان رجلًا محترمًا ومهنيًا. وقع الكشف عليَ بشكل مفصل، وهدأ من روعي. وقال: اهدوا مفيش جلطة ولا حاجة، ده غالبًا الدم مش واصل كويس للمخ، وكتب لي روشتة، وطلب مني إجراء أشعة مقطعية ورنين مغاطيسي على أوردة وشرايين المخ.
بسبب "المعلم الدكتور استشاري المخ والأعصاب أحمد طلعت الغنيمي"، عشت حوالي شهر في سواد السودا. ولولا أن ربنا ألهمني وكتبت بوست على الفيسبوك، وطلبت من الأحبة الدعاء لي، مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يرد القضاء إلا الدعاء، وبسبب دعاء الأصدقاء المخلصين، وبعد إجراء الأشعة والتحاليل اللازمة، الحمد لله، مفيش جلطة ولا حاجة.
في مصر.. الفقير اللي زي حالتنا إذا مرض، هيموت إما من الإهمال في المستشفيات العامة، أو يموت من حرقة الدم، لو دخل مستشفى خاص، ومفيش في جيبه أو فيزته 15 ألف جنيه على الأقل.
في مصر.. العلاج يحتاج إلى ألوف مؤلفة ويمكن عشرات الألوف. في الجمهورية الجديدة، يجب النظر إلى قطاع الصحة بنظرة عطف ورحمة، يجب أن ينال التطوير السخي المستشفيات العامة.. مستشفيات الفقراء، مع العلم أن تطوير أي مستشفى لن يزيد عن تكلفة إنشاء كوبري أو توسعة طريق إلى عاصمة الجمهورية الجديدة.