الروتين«سيد قراره» !
لم يكن قولُ المُتنبي: وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء، مجرد استجابة لربة الشعر، التي هيَّجت مشاعره واستنطقت قريحته ليصوغَ تلك القصيدة التي حوت البيتَ أعلاه وفقط، بل كان تعبيرًا عن واقع مَعيشٍ تُسيطر أجواؤه الكئيبة على بعض إن لم يكن كثيرًا من مؤسسات الدولة، التي يُعدُ فيها الروتين "سيدَ قراره"، والحالَ التي لا يمكن تغييرها، والتي بسببها يعاني المتعاملون مع مؤسسات الدولة من البيروقراطية المقيتة التي تُهدرُ الجهد والوقت والمال، وتغضُ الطرف عن شكاوي المواطنين ومطالبهم؛ وهو ما يجعلُ وصول مصر وغيرها من الدول العربية إلى مصاف الدولة المتقدمة أُمنية لا يمكن تحقيقها حتي يلجَ الجملُ في سمّ الخياط، أو نكبل أخانا سيد قراره بأكبال من حديد!.
والناظر يجدُ أنه تتعدد بمصر مصالحُ الدولة ومؤسساتها التي يتحكم فيها الروتين، وتُحدد سيرها البيروقراطية، التي تجعل من بعض موظفي المؤسسة الصغار "عبده مُشتاق"، ذلك الموظف السمج، الذي ينتشي ويتطوس دون التفات للوائح والقوانين، ويلتمس حيلًا ومبررات وثغرات تجعلُه في واد، وتعليمات رؤسائه، أو حتي لوائح مؤسسته في واد آخر.
نموذج الموظف البيروقراطي، تراه عزيزي القارئ، أو قُل تتعثر قدماك فيه في أكثر من مؤسسة من مؤسسات الدولة، سواء في شركة الكهرباء، أو مرفق مياه الشرب والصرف الصحي، أو الشركة المصرية للاتصالات، أو هيئة النقل والمواصلات، أو هيئة السكة الحديد، أو مستشفيات وزارة الصحة، أو مصالح الشهر العقاري، وغيرها الكثير من المؤسسات، التي يكثر بها موظفون يُعطلون مصالح الجمهور دون التفات إلي استجارة مُستجير، أو شكوي شاك، وذلك بجعل آذانهم إحداها من طين والأخري من عجين.
وبمقارنة كثيرٍ من مؤسسات مصر المحروسة مع مؤسسات الدول الأوروبية، أو حتي معظم الدول العربية، وبعض الدول الإفريقية، التي خطت خطوات واسعة في طريق البناء والتنمية، يعض المرء أنامله من الغيظ من شدة النظام بتلك الدول، الذي يدفع وزيرًا للاستقالة لحدوث عطل بوزارته أو خطأ غير مقصود، ويُجبر وزير كهرباء في دولة أخرى على الاعتذار لمجرد انقطاع التيار لثوان معدودة، ويجعل وزيرًا للنقل بدولة ثالثة يستجدي شعبه أن يسامحه لتأخر إحدى وسائل النقل عن موعدها دقيقة أو دقيقتين على الأكثر، وغيرها من وقائع سمعنا ونسمع عنها كل يوم، وتجعل "الأقرع يشُد في شعره" ؛ حسرة على حالنا في مصر أم الدنيا.
ورغم أن في الحلق ماء، دعونا نؤكد أنه لو أردنا أن نسلك طريق التقدم، فلا بد من ضميرٍ يقظ لدى كل مسئول سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وإيمانٍ بأهمية قضاء مصالح الناس، فضلًا عن ضرورة وجود رقابة صارمة تضرب على يد المُقصر بعصا من حديد، هذا إلى جانب مُحاربة الرشوة، والمحسوبية، التي تُعطي الحق لغير مُستحقيه، وتجعل الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، وترتفع بالأقزام على حساب القمم، بالإضافة إلى ضرورة احترام النظام، وعدم تضييع وقت المؤسسات في قراءة أخبار الصحف، وحل الكلمات المتقاطعة، أو ممارسة لعبة "الببجي"، أو الشات، وغير ذلك من وسائل فساد ألقت بظلالها القاتمة على مجتمعاتنا العربية، وبهذا فقط سنستعيد مجدنا، وبدونه سنظلُ أمة ضحكت وتضحكُ من جهلها الأمم.