إسلام الليثي يكتب: سيدتي الجميلة التي حاربت الموت دون سلاح
(1)
ذات ليلة من ليالي الشتاء، البرد قارس أصوات رعد السماء تطغي على كل شيء، رائحة الجو تنبأ عن أزمة قادمة لا محالة، طار ذهني يفكر فيما هو مقدم عليه، حيرة وأفكار شيطانية تصعد وتهبط في مخيلتي، سؤال واحد لا يجد له عقلي إجابة، إلى أي مدى ستؤول الأمور؟
منذ طفولتي وأنا أعاني من اكتئاب حاد أيام الشتاء، فأنا من هؤلاء الأشخاص عاشقين الصيف وشمسه الساطعة ولياليه الطويلة، لم أكن قط من مُريدي ودراويش رائحة الشتاء ولحظات سقوط الأمطار الرومانسية، وحده الصيف الذي أشعر فيه بالانتعاش خاصة بعد «دوش سريع» في منتصف اليوم يجدد شغفي وحبي لحياة الصيف.
لحظات طويلة شارد أنظر إلى السماء من شرفة منزل العائلة، لأشعر من بعيد قدوم أمي نحوي، لم تكن هي أمي التي اعتدت رؤيتها على مدار ربع قرن ماضي، أشعر وكأنها سيدة أخرى تمامًا، يظهر في عيونها الأسى والحزن والألم، تأتي والدموع تكاد تنفجر منها لتعلن لي عن النبأ المشئوم.
(2)
طيلة حياتي أبغض على الكذب وأصحابه لم أخشى سوى الكاذبين ومن يستحلون الكذب، ولكني الآن ها أنا أكذب، ولم أقدر على التجمل: «لما تخافين يا أمي؟ السرطان فزاعة أسطورة طبية اخترعها البعض من أجل التهويل وأحيانًا لأسباب أخرى، لا تحزني يا قرة عيني ستشفين حتمًا ستنتصري على هذا الكانسر اللعين، فما هو إلا تغير عشوائي أهوج في بعض هرمونات وخلايا الجسد ستنضبط بالوقت والعلاج».
يا لك من مخادع كذاب، كيف لك وأنت تمقت الكذب وأنت الآن تمارسه ببراعة، كنت أعلم كذبي البين ولكن لم أكن أضع حسابات وقتها سوى الصبر والإيمان بحكمة الله.
(3)
7 سنوات بأكملهم لم أضع في حساباتي قط يوم الرحيل، خيل لي أن القدر سيكتب وفاتي قبلها، زاد العشم مع الله معتقدًا أنها ستقضي الباقي من عمرها تدعو لي بالرحمة والمغفرة، ولم أشعر للحظة أنني سأكمل ما تبقى من عمري على ذكراها.
حانت لحظة الوداع كانت القبلة الأخيرة على يديها ووجنتيها أدركت أنه الخلاص، لحظة الفناء الأبدي، سترحل ستفارق حياتنا بلا عودة، لم تكذب هي، ولم تتجمل، قالتها جملة صارخة عصفت بكل جوارحي ومشاعري أخبرتني قائلة: «سأغادر غدًا تعبتك كتير بس خلاص هنروح بكرا ومش هتعبك معايا تاني»، لم أكن ساذجًا ليخيل لي أنها تتحدث عن مغادرة غرفة الرعاية الحرجة وتلك المستشفى البغيضة، أدركت أن القطار سيرحل لا محالة سينتصر الموت، سيرفع المرض اللعين راية الانتصار في وجهي.
خرجت أصرخ في الشوارع ولا أبالي أحدًا من المارة إلى جواري، انتابتني قشعريرة هي الأولى من نوعها، لم أدرك قسوة المشهد وتلك المشاعر التي لم يخيل لي قط أنني سأشعر بها، وثقت في حربها الشعواء ضد الموت والمرض دون أدنى سلاح معها.
ارتفعت نوبات الصراخ والبكاء، لم أعد أقدر على الصمود أعلم جيدًا أن هلاك الأسرة برمتها قادم لا محالة.
أواصل الانهيار ودون أدنى إدراك مني اتمتم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}.
أمي.. أمي: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}.
لم يتنبه أحد لحالي، لم تصل صراختي بكل آسف إلى أي شخص يساهم في لملمة جراحي وطمأنتي، كنت أبحث في وجوه المارة عن شخص قادر على التهدئة من روعي حتى ولو بالكذب: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}.
تخرج الآهات عميقة من قلبي واهنة من وطأة الموقف، اصرخ هاتفًا دون جدوى أمي.. أمي: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور}.
جلست طوال الليل انتظر لحظة الفاجعة.. أعلم جيدًا أنها ساعات بطيئة قاتلة وسينتهي كل شيء، لم أدرك قط كيف أسير في دروب الدنيا وحيدًا دونك.. أمي.. أمي، أعلم جيدًا أن ساعات قليلة ويغلق باب من أبواب الجنة.. تساؤلات جارفة كادت تعصف بذهني، عقلي الصغير غير قادر على الاستيعاب، كيف أسير في دروب الدنيا وحيدًا دونك؟.. أمي.. أمي، أعلم جيدًا أن ساعات قليلة ويغلق باب من أبواب الجنة في وجهي، مؤمن بقضاء الله دون أدنى شك وأثق في رب العالمين أن جائزتك الكبرى تنتظرك عند صاحب السبع سموات.
فترة من الزمن لم أقدر على حسابها حتى اللحظة الحالية، هل كانت مجرد ثوانٍ أم دقائق أم دهرًا من الزمان، استسلمت للنوم لأستيقظ على الكابوس الأكبر والحقيقة الوحيدة في حياتي رحيل أمي.