محطات في حياة الإمام محمد الخضر أول شيخ للأزهر الشريف
تحل اليوم ذكرى وفاة الشيخ محمد الخضر حسين، الذي يعد أول شيخ للأزهر من أصل غير مصرى وربما الوحيد، وتولى محمد الخضر حسين رئاسة الأزهر من الفترة 1952- 1954 كان مسئولا فيها عن الجامع والجامعة ورئاسة علمائه وشؤونه الإدارية، وهو من المرجعيات المؤثرة في العالم الإسلامي.
مولده ونشأته
ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نفطة، بتونس في 26 من رجب سنة 1293هـ، الموافق 16 من أغسطس سنة 1876م، وهو من أسرة كريمة أصلها من الجزائر، ومن المرجح أنها كانت تنتمي إلى أسرة الأدارسة التي حكمت المغرب فترة من الزمان.
نشأ الشيخ الإمام محمد الخضر حسين في بلدة نفطة، وتأثر بأبيه وخاله، وحفظ القرآن الكريم، وشَدَا جَانِبًا من الأدب، وألَمَّ بمبادئ العلوم العربية والعلوم الشرعية، ثم انتقل مع أسرته إلى العاصمة التونسية، وهو في الثانية عشرة من عمر ؛ فالتحق بجامع الزيتونة سنة 1307هـ = 1889م، وهو شَبِيهٌ بالجامع الأزهر، وتنقَّل به في الدراسة من مرحلة إلى أخرى.
ونال الشيخ الإمام محمد الخضر حسين شهادة العَالِمية من جامعة الزيتونة، ثم رحل إلى الشرق سنة 1317هـ، وما كاد يبلغ طرابلس ويقيم بها أيامًا حتى عاد إلى تونس، فلازم جامع الزيتونة يُفِيد ويستفيد، ثم أنشأ مجلة السعادة العظمى سنة 1321هـ، ويعدها بعض الباحثين أول مجلة عربية أدبية علمية في شمال إفريقيا، وأسهم بقلمه ولسانه في النهضة العربية والسياسية، فجذب إليه الأنظار.
جهوده العلمية
لما قامت الحرب الطرابلسية بين الطليان والعثمانيين وقف قلمه ولسانه على الدعوة لمعاونة الدولة العثمانية، ثم رحل إلى الجزائر فزار أمهات مدنها، وألقى بها الدروس المفيدة، ثم عاد إلى تونس، وعاود دروسه في جامع الزيتونة وواصل إلقاء المحاضرات، ونشر المقالات الدينية والأدبية في الصحف، وحاولت الحكومة ضمه إلى محكمة فرنسية فرفض الاشتراك فيها، ووجهت إليه تهمة بث روح العداء للغرب وبخاصة لسلطة الحماية الفرنسية.
في سنة 1337هـ ذهب إلى الآستانة وكانت الحرب العالمية الأولى في نهايتها والدولة مؤذنة بالزوال، فتوجه إلى ألمانيا مرة ثالثة وقضى هناك سبعة أشهر، ثم عاد منها إلى دمشق مباشرة، وحين عاد صادف دخول الجيش العربي بقيادة فيصل بن الحسين، وكانت الأوضاع غير مستقرة، وكان الشيخ قد سئم كثرة الأسفار وعدم الاستقرار، ثم وقع الاحتلال الفرنسي لسوريا، ففكر الشيخ في أن يعود إلى تونس ويستقر بها ما بقي من حياته وإن كان قلبه مُعَلَّقًا بدمشق، ثم استقرَّ عزمه أخيرًا على أن يستوطن القاهرة حيث يسعد فيها بلقاء أصدقائه من كبار العلماء وزعماء النهضة الوطنية والأدبية، فحضر إليها سنة 1339هـ
وأخذ يشتغل بالبحث والدراسة وكتابة المقالات، وفي سنة 1340هـ ألَّف رسالته القيمة (الخيال في الشعر العربي)، ثم جذبته دار الكتب المصرية إليها فعمل مُحَرِّرًا بالقسم الأدبي فيها عدة سنوات، ثم تَجَنَّس بالجنسية المصرية، وتقدم لامتحان شهادة العَالِمية بالأزهر، وكانت لجنة الامتحان برئاسة العلامة الشيخ عبد المجيد اللبان، فكانت اللجنة كلما تعمقت في الأسئلة وجدت منه تعمقًا في الإجابة مع غزارة علم، وقوة حجة، وبلاغة آراء، فنال العَالِمية وانضم إلى طليعة علماء الأزهر.
في سنة 1342هـ أسس جمعية (تعاون جاليات إفريقيا الشمالية)، وسنَّ لها قانونًا طبعه صديقه السيد محب الدين الخطيب، وكان دائب الحركة يَدْرُس ويدرِّس ويُحَاضر، ويكتب للصحف والمجلات ويشترك في الجمعيات والأندية، وكان يرى نهضة الأمة الإسلامية مرتبطة بالدراسات العلمية والإنتاج الصناعي.
وفي سنة 1343هـ مرض مرضًا شديدًا فأحسَّ آلام المرض تفري جسمه ولكنه أحسَّ آلام الأسف الشديد تفري قلبه حزنًا على الوطن الإسلامي، ووقوعه تحت وطأة الاستعمار والغشوم.
وفي سن 1345هـ ظهر كتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين، فأحدث ضجة أكبر من ضجة الكتاب السابق، فبادر الشيخ الإمام محمد الخضر حسين بنقده ونقضه في كتابه القيم (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) فأفاد به وأمتع، وردَّ الحق إلى نصابه.
في سنة 1346هـ أسس جماعة من الفضلاء جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، فكان الشيخ وصديقه الحميم تيمور باشا في طليعة المؤسسين لهذه الجمعية التي قامت شامخة لنشر التعاليم الإسلامية والدفاع عن القيم الروحية، ولم يقف نشاط الشيخ عند هذا الحد، فلما نجحت جمعية الشبان المسلمين تفرغ الشيخ لإنشاء جمعية الهداية الإسلامية، فضم إليها جمهرة مستنيرة من شباب الأزهر وشيوخه ومن طبقات المثقفين ثقافة مدنية، وأنشأ بها مكتبة كبيرة كانت نواتها مكتبته الخاصة، وأنشأ لها مجلة تحمل اسمها، كما أنشأ لها فروعًا بالأقاليم، فكان يلتقي فيها بأصدقائه وتلاميذه وطلاب المعرفة فيفيض عليهم من علمه وتوجيهاته الرشيدة ما يفيدهم في الدنيا والآخرة ويقودهم إلى فاطر السموات والأرض.
وفي 1349هـ أصدر الأزهر مجلة شهرية باسم (نور الإسلام) وهي (مجلة الأزهر) الآن، فتولى الشيخ رئاسة تحريرها ابتداء من جزئها الأول محرم سنة 1349هـ= 1931هـ، إلى عدد ربيع الآخر سنة 1352هـ، واستقال من رئاسة تحرير المجلة، وسبب الاستقالة أنه دارت بينه وبين الأستاذ المرحوم محمد فريد وجدي مناقشات علمية في الصحف، ثم فوجئ بتعيينه (أي: محمد فريد وجدي) مديرًا لمجلة نور الإسلام، فقدَّم الشيخ الإمام استقالته من رئاسة تحرير المجلة، فألح عليه شيخ الأزهر وقتها الإمام الظواهري بسحب استقالته ورجاه أن يواصل الإشراف على المجلة، فاعتذر وقال: ما كنت لأتعاون مع رجل كنت أرد عليه أمس.
وحينما تم إنشاء المجمع اللغوي كان في مقدمة من وقع عليهم الاختيار لعضويته، كما اختير عضوًا بالمجمع العلمي العربي في دمشق، وكانت له أبحاث قيمة في المجمع اللغوي، نشرتها مجلة المجمع، منها:
- المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية (ج 1، ص 291).
- شرح قرارات المجمع والاحتجاج لها، وتكملة مادة لغوية ورد بعضها في المعجمات (ج 2، ص 36).
- الاستشهاد بالحديث في اللغة ( ج 3، ص 197).
- وصف جمع العاقل بصيغة فعلاء (ج 7، ص 254).
- اسم المصدر في المعجم (ج 8، ص 366).
- طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية (ج 8، ص 366).
- شعر البديع في نظر الأدباء (ج 11، ص 35).
- من وُثِّقَ من علماء العربية ومن طُعِنَ فيه (ج12، ص 51).
واشترك في كثير من لجان المجمع، منها: لجنة اللهجات، لجنة الآداب والفنون الجميلة، لجنة دراسة معجم فيشر، لجنة الأعلام الجغرافية، لجنة الأصول، لجنة ألفاظ القرآن الكريم، لجنة المعجم الوسيط.
وفي سنة 1370هـ نال عضوية جماعة كبار العلماء برسالته (القياس في اللغة العربية).
ولايته لمشيخة الأزهر الشريف
ذكرت دار الإفتاء المصرية، عبر موقعها الرسمي أنه في 23 من يوليو سنة 1952م قامت الثورة في مصر للقضاء على الظلم والطغيان ومقاومة الاستعمار لا في مصر وحدها، بل في العالم العربي كله، وأعلنت شعار القومية العربية وأسهمت في استقلال السودان وإجلاء المستعمرين عن مصر، وأعلنت الثورة الجزائرية ومدت يدها إلى هيئات التحرير في البلاد العربية والإفريقية والإسلامية.
وتابعت: وفي مستهل عهد الثورة رأت أن يتولى قيادة الأزهر مناضل عربي من زعماء المسلمين ومن قادتهم في مناضلة الاستعمار في أقطار العالم العربي، وانعقد الإجماع على اختيار الشيخ الإمام محمد الخضر حسين، وفي يوم الثلاثاء 26 من ذي الحجة 1371هـ، الموافق 15 من سبتمبر سنة 1952م خرج من مجلس الوزراء أثناء انعقاده ثلاثة من الوزراء توجهوا إلى البيت الذي يسكن فيه الشيخ بشارع خيرت وعرضوا عليه باسم الثورة مشيخة الأزهر.
وأردفت الدار: وما كان يتوقع أن يلي هذا المنصب في يوم من الأيام، وقال بعد هذا لخلصائه: لقد سقطت المشيخة في حجري من حيث لا أحتسب... وولي الأستاذ منصبه وفي ذهنه برنامج إصلاحي كبير للنهضة بهذه المؤسسة الإسلامية الكبرى، وجعلها وسيلة لبعث النهضة الإسلامية العظمى، التي يتطلع إليها العالم الإسلامي في جميع القارات، ويذكر المتصلون به أنه أعطى المنصب حقه من الرعاية والتكريم، فما كان يتذلل أمام حاكم، ولا كان يجامل على حساب عقيدته أو دينه، وكان هذا شأنه منذ نشأته.
واستقال الشيخ من منصبه (مشيخة الأزهر) في الثاني من جمادى الأولى سنة 1373هـ الموافق السادس من يناير سنة 1954م، وتفرغ كعادته للكتابة والبحث والمحاضرة، حتى لقي ربه.
توفي الشيخ الإمام محمد الخضر حسين -رحمه الله- مساء الأحد الثالث عشر من رجب سنة 1377هـ الموافق الثاني من فبراير سنة 1958م.
مؤلفاته العلمية
- رسائل الإصلاح، في ثلاثة مجلدات، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي.
- الخيال في الشعر العربي.
- القياس في اللغة العربية.
- ديوان شعر (خواطر الحياة).
- نقض كتاب الإسلام وأصول الحُكم.
- نقض كتاب في الشعر الجاهلي.
- آداب الحرب في الإسلام.
- أبحاث ومقالات عديدة نشرها في مجلة الأزهر (نور الإسلام)، ولواء الإسلام، والهداية الإسلامية، وغيرها.
- تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي.
أبرز أقواله
1- يقول الإمام محمَّد الخضر حسين-رحمه الله تعالى-: ( إن الإسلام دين ينظم شؤون هذه الحياة؛ كما يرشد إلى سبيل السعادة في تلك الحياة، وهو الدين الذي عني بتصفية النفوس من طبائعها الرديئة، وتخليصها من شهواتها الطاغية، ثم عطف على الأجسام، فخلى سبيلها لأن تتمتع من نعيم هذه الحياة وزهرتها إلا أن تطغى، فبقدر ما يدرك الإنسان من صفاء النفس، وسلامة الضمير، وبقدر ما يكون له من السلطان على شهواته، فلا تتعدى حدود الاعتدال، يصعد في مراقي الفلاح، ويدنو من مقام الكرامة والوجاهة عند الله).
2- « ومن الذي لايعلم ان معاهدَ تقام في اوطاننا باسم العلم، أو العطف على الانسانية،والغاية منها: صدْ النفوس عن صراط الله السويّ ؟ دلّ على هذا كتب يدرّسونها في هذه المعاهد، وهي كما قرأنا نبذًا منها محشوة بالطعن في الاسلام، وَالحطّ من شأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم».
3-« إن الخوض في المسائل التي لا يستنتج منها فائدة، أو يستعان بها على ذلك الاستنتاج، ضرب من اللاغية، وتعطيل للوقت النفيس من حلية الأعمال النافعة».
4- « إنما الليالي حلقات تماسكت، فتكونت منها سلسلة نسميها بالزمان،وإنه ا لاشبه ببعضها من الماء بالماء والهواء بالهواء، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما مثل الأيام الا كمثل أكواب من قوارير تتلون بلون ما تشغل به، فان ضمّتْ سمًّا زعافًا لاحت فيها مخائل الاستيحاش،، وان حفظتْ شرابًا طهورًا انطبعت فيها شمائل الايناس».
5- « ما رأى الإسلام مصلحة الا امر بها، وما رأى مفسدة الا نهى عنها، فان كانت المصلحة عظيمة امر بها على وجه الوجوب، وان كانت ضئيلة امر بها على وجه الاستحباب،، وان كانت المفسدة عظيمة، نهى عنها على وجه الحرمة، وان كانت قليلة، نهى عنها على وجه الكراهية، هذا ما تقرر عند من أسلموا بحقّ».
6- « إن الأمة التي تاخذ بنصائح الدين،وتقتدي بآدابه في السرّ والعلانية، هي الأمة التي يمكنها أن تتحد و تتآزر في صفاء،وهي التي تستطيع ان تبني عظمة، وتحوط أكنافها بمنعه، فلا تجد الأيدي العادية إلى هضم حق من حقوقها منفذًا».
7- « والذي يرفع الرجل إلى أقصى درجات الفضل والمجد، ويجعله من رجال الأمة وأعضائها العاملين، إنما هو الإخلاص الذي يجعلهالإنسان حليفحليف سيرته، فتراه لا يقدم على عمل ما الا وهو متمسك بعروته الوثقى، فالنفس التي تتحرر من رقّ الأهواء، وتخلع ثوب الرياء،ولا تسير إلا على ما يمليه عليها الإخلاص، هي النفس المطمئنة بالايمان، المؤدبة بحكمة الدين ومواعظه الحسنة».
8- « وإذا كانت الأعمال تتفاوت بالفضل على قدر تفاضل غايتها، فان للقضاء غاية تعدّ من اجل الغايات: هي نصرة المظلوم، وكفّ يد الظالم، وقطع المنازعات، والإصلاح بين الناس،وأداء الحق لمستحقّه، ومن ذلك يستتب الأمن في البلاد، وإذا استتب الأمن، فهناك طمأنينة النفوس، وسعادة الحياة».
9- « يعدّ في كبائر المعاصي: خلط الحق بالباطل، أو جحود الحق،ويكون وقعه أقبح، وفساده اكبر، وعاقبته اشأم، متى صدر من عالِمٍ يميز الباطل من الحق».
10-«ان الدين الاسلامي يقوّمُ العقيدة ويصلحها، ومتى استقامت العقيدة وصلحتْ، أقامت على المرء رقيبًا منه عليه في حركاته وسكناته، وفي سرَّه وعلانيته،وجعلت قلبه عرشًا لحكومة ساهرة، حاكمها قدير عادل،عينه لا تنام، وملكه لا يرام».
11- « التاريخ والمشاهدة يدلان على أن في الشباب من يبلغ في حصافة العقل، وحسن التدبير، المنزلة الكافية لأن يلقى على عاتقه ما يلقى على عاتق الكهول أوالشيوخ من عظائم الأمور ».
12- «ومجرد الحزن عند نزول المصيبة معفوٌّ عنه، وإنما يؤاخذ الانسان على جزع يفضي به إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من البأساء أو الضرّاء، أو إلى فعل ما حرَّمه الشارع، من نحو النياحة، وشق الجيوب، ولطم الخدود».