سر اختفاء دور العمدة في قرى الصعيد واقتصاره على حضور المناسبات
«عمدة القرية» وظيفة اجتماعية ارتبطت بشكل أساسى بالقرية المصرية، وكان دور العمدة يمثل همزة الوصل بين الحكومة والمواطنين، وكان مطلوبًا منه مرافقة موظفى الحكومة فى بعض الأعمال والمهام داخل القرية، إلى جانب دوره الاجتماعى الكبير والفعّال كحل النزاعات وإنهاء الخصومات، ويلتزم برأيه وقراره جميع أهل القرية.
أما الآن فتقلص دور العمدة، ولم يعد أحد يشعر به، فى الوقت الذى أصبح له فى معظم دول العالم دور أكبر وأشمل من منصب العمدة في مصر والذى اقتصرت صلاحياته على الخدمات السطحية والبسيطة داخل نطاق القرية، وانحصر دوره فى حضور المناسبات كنوع من الوجاهة الاجتماعية سواء كانت المناسبة عزاء أو فرح.
4700 قرية فى محافظات مصر يتبعها 31 ألف عزبة وكفر ونجع
ولا يعلم الكثير من عامة الناس عن منصب العمدة شيئا، سوى ما شاهدوه فى الأفلام والمسلسلات، حيث لا يعلم البعض أن منصب العمدة معروف منذ عصر المصريين القدماء وكان يعد امتدادا لوظيفة شيخ البلد التى كانت تطلق على وظيفة العمدة حتى عصر المماليك ومن بعدهم العثمانيين، وفى عهد الخديو إسماعيل تم إصدار قانون يقتضى بأن يكون على رأس كل قرية عمدة، يرأس مجموعة من الخفراء ويعاونه شيخ بلد أو أكثر.
وظهر منصب العمدة بمصر منذ العصر البطلمى قبل الميلاد بعدة قرون فهى وظيفة مصرية راسخة ارتبطت بنشأة القرية، وتعتبر من أهم الوظائف وأخطرها شأنا لارتباطها بالفئة الغالبة من الناس فى مصر، حيث يقطن القرى 75% من السكان، ويعتبر منصب العمدة أول درجات السلم الإدارى، فالقرية هى اللبنة الأساسية الأولى فى البنيان الإدارى، وتعتبر وظيفة العمدة الوظيفة الوحيدة التى يمكن أن يبنى عليها كل إصلاح اجتماعى أو إدارى أو اقتصادى أو سياسى يمكن أن يشهده البنيان الإدارى.
وثمن الكثير من أعضاء مجلس النواب دور العمد والمشايخ ودور الدولة التى اعتبرتهم رجال إدارة قائمين على حفظ الأمن والسكينة فى القرية المصرية، ويصل عدد القرى بمحافظات مصر إلى ما يقرب من 4700 قرية ويتبع لها 31 ألف عزبة وكفر ونجع.
من ناحيته، يقول اللواء رأفت الشرقاوي مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن العام سابقًا، إن العمدة أو الشيخ مسؤول عن حماية أمن القرية بمنع الجرائم وضبط ما يقع منها وإجراء المصالحات والعمل على فض المنازعات والتوفيق بين المتخاصمين وكل ما من شأنه الحفاظ على الأمن العام، مؤكدًا أن عليهم فى دائرة عملهم مراعاة أحكام القوانين واللوائح واتباع الأوامر التى تبلغ إليهم من جهات الإدارة، وعليه أن يقيم فى القرية المعين فيها، إذا منع العمدة أو الشيخ مانع فيندب أكبر المشايخ لتولى المهمة لحين عودته.
وأضاف مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن العام سابقًا، خلال حديثه لـ«النبأ الوطني»، أن منصب العمدة معروف فى معظم دول العالم إن لم يكن جميعها، وقد تتشابه مهامه وطريقة وشروط تعيينه أو تختلف من بلد إلى آخر، ففى بعض الدول يعادل هذا المنصب رئيس مجلس المدينة وفى البعض الآخر تعادل وظيفة المحافظ، ولمديري الأمن توقيع الجزاء المناسب على العمد والمشايخ حال عدم أداء عملهم بالصورة المحددة.
العمدة أو الشيخ مسؤول عن حماية أمن القرية بمنع الجرائم وإجراء المصالحات
وأشار «الشرقاوي»، إلى أن تعديلات قانون العمد والمشايخ التى صدرت بموجب القانون رقم 16 لسنة 2023 المعدل لقانون العمد والمشايخ رقم 58 لسنة 1978 نصت على سلطة وزير الداخلية بمنع العمد والمشايخ الذين سبق فصلهم من إعادة الترشح، ولوزير الداخلية فصل العمدة أو الشيخ لأسباب تتصل بالمصلحة العامة، مضيفًا أن القانون الجديد تضمن عدة جزاءات لمن قصر من العمد والمشايخ فى مهام عمله وهى: "الإنذار - الخصم من المكافأة الشهرية بما لا يجاوز الربع، الحرمان من المكافأة لمدة 3 أشهر - الحرمان من المكافأة لمدة 6 أشهر - الوقف عن العمل - الفصل من الخدمة".
ويكمل: بالنسبة لاختفاء دور العمدة فى قرى صعيد مصر، فهذا القول مردود عليه بالقانون بأن تم إلغاء منصب العمدة فى القرى التى تحتوى على نقطة شرطة، ولكن يرجع اختفاء دور العمدة أيضًا إلى انتشار مواقع التواصل الاجتماعى واختلاف الثقافات التى ظلت سائدة فى مجتمع الريف لسنوات وأزمنة وعصور طويلة، وتغيير أنماط الحياة وأساليب تفكير الشباب والانفلات الأخلاقى الذى صاحب الاضطرابات السياسية الأخيرة، واهتزاز صورة الكبير، وعدم استقرار الأوضاع الاقتصادية.
وأكد مساعد وزير الداخلية لقطاع الأمن العام سابقًا، أن كل هذه الأسباب المذكورة تحالفت وتكتلت وأسهمت فى إضعاف دور العمدة إلى حد كبير فى أحداث التأثير والتغيير المنشود فى قراهم، وكذلك لارتفاع نسبة التعليم وانتشار الوعى وانتشار ثقافة حقوق الإنسان، فضلا عن تغير طبيعة الأجيال الجديدة التى أصبح معظم أبنائها لا يحترمون الكبير وهو ما أحدث فجوة بين جيل الكبار والشباب؛ نظرًا لعدم تأثير الآباء على الأبناء، إضافة إلى تزايد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وهو الأمر الذي أدى إلى تراجع الدور المؤثر للعمدة فى كثير من القرى، خاصة أن تركيبة العائلات تغيرت بشكل كبير.
العمدة هو الكبير الذى يتم من خلاله حل المشاكل بقريته عن طريق المجالس العرفية
ويكمل: ولكن رغم كل ذلك إلا أن دور العمدة والشيخ ما زال محفوظًا بين أهل القرية والحصة ويوفر على الدولة الكثير والكثير من المشاكل التى تحل بمعرفة المجالس العرفية التى تعقد بدوار العمدة وتخفف الضغط على المحاكم والنيابات، ويجوز تعيين العمدة أو الشيخ من العاملين المدنيين بالدولة أو القطاع العام أو قطاع الأعمال ويحق له الاحتفاظ بالوظيفة طوال مدة شغل الوظيفة ويعتبر متفرغًا لعمله كعمدة أو شيخ بلد متمتعًا بجميع مزايا وظيفته الأصلية من خلال هذه الجهة التى يعمل بها.
ولفت إلى أن المرأة المصرية لها دور كبير وبارز فى المجتمع المصرى فقد أصبحت عمدة داخل البلاد، حيث أعدت الدراما المصرية مسلسل «حضرة العمدة» لتجسد خلاله أستاذة جامعية دور العمدة، وأبرزت خلاله عدة قضايا اجتماعية طفت على السطح، فى الآونة الأخيرة، منها: «قضية نيرة أشرف فتاة المنصورة - ختان الإناث - تجارة الآثار - المخدرات - الهجرة غير الشرعية - زواج القاصرات - وظاهرة الإسلاموفوبيا».
ويقول الشيخ حلمي ثابت، مرشح لمنصب عمدة بإحدى القرى بمحافظة سوهاج، إن منصب العمدة من المناصب الاجتماعية الخطيرة والمؤثرة فهو فى نظر قومه كبير القرية وكبير المقام والذى يصلح بينهم ويشاركهم مناسباتهم الحزينة والسعيدة، فهو الكبير الذى يتم من خلاله حل المشاكل بقريته عن طريق المجالس العرفية التى يتم الحكم فيها تبعا للأعراف والتى يقيمها فى دواره، وهذا الدوار له مكانة خاصة فى نفوس أهل القرية؛ لأنه المكان الذى تنتهي فيه النزاعات الكبرى، ويجتمع فيه كل كبار القرية وزوارها وضيوفها من المسئولين ولهذا كان منصب العمدة من أكبر عائلات القرية والتى كان نادرًا أن تخرج العمودية منها وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل.
قصة تعيين أول سيدة فى منصب العمدة عام 2008 بمحافظة أسيوط
وأضاف المرشح لمنصب عمدة بإحدى القرى بمحافظة سوهاج، لـ«النبأ» أنه نظرًا لتمتع العمد والمشايخ بالسلطة والنفوذ والمكانة الاجتماعية المتفوقة على أقرانهم من الفلاحين فى قراهم ونواحيهم، كان ذلك عاملًا من عوامل تسلطهم وتعسفهم مع هؤلاء الفلاحين قديمًا، حيث أساءوا استخدام سلطاتهم التى تخول لهم الإشراف على شئون الزراعة والرى وتحصيل الضرائب والأموال وإدارة القرية، وذلك بالاعتداء عليهم بالضرب أو غصب أموالهم وأطيانهم ومواشيهم وأقطانهم.
وأشار إلى أن منصب العمدة كان لعدة سنوات قاصرا على الرجال حتى عام 2008، حيث تم تعيين أول سيدة فى هذا المنصب تدعى: إيفا هابيل كيرلس، عضو منتخب فى المجلس الشعبى المحلى لمحافظة أسيوط، ثم تم تعيينها عمدة لقرية كمبوها بحري.