عبد الله السناوي : الإلهام قضية أخرى
هناك فارق بين الإنجاز وإلهامه والحدث ومستقبله. توسيع قناة السويس أهم مجرى ملاحى دولى إنجاز له قيمته الهندسية غير أن إلهامه السياسى قضية أخرى تتعلق بصورة المستقبل.
بالقرب من احتفالات (6) أغسطس يتأكد أن هذا البلد رغم ظروفه الصعبة قادر على البناء والإنجاز وأن مواطنه العادى مستعد أن يضحى ويتحمل بقدر ما يرى أمامه من ضوء فى نهاية النفق.
هذا هو المعنى الرئيسى الذى لا يصح إهداره تحت وطأة الدعايات المفرطة. فلم يكن متاحا لدولة شبه مفلسة أن تمول مشروعا بهذا الحجم ما لم يتدافع مواطنوها أمام البنوك العامة بصورة لا مثيل لها فى التاريخ الحديث لإيداع الأموال اللازمة.
لم يكن ذلك بحثا عن أرباح إضافية فى شهادات استثمار بقدر ما كان تثبيتا للدولة والثقة فيها بلحظة حرب مع الإرهاب. هذه مسألة شرعية قبل أن تكون مسألة تمويل وقضية مستقبل قبل أن تكون حسابات أرباح.
قيمة أى إنجاز فيما يلهمه من إرادة عامة وما يترتب عليه من سياسات. بمعنى آخر أن يكتسب المواطن العادى ثقته فى نفسه ومستقبله، أن يرى الطريق واضحا أمامه وثمار تضحياته ملكه.
هذا ما نفتقده بفداحة فى الاحتفالات التى توشك أن تضىء أنوارها المبهرة على شاطئ قناة السويس.
الحدث إنجاز كبير فى توقيت صعب لكنه لا يكفى وحده لفتح صفحة جديدة. السؤال الرئيسى الآن: ماذا بعد أن يسدل الستار على كل ما هو احتفالى؟ فى التجربة المصرية المعاصرة هناك حدثان احتفاليان يستحقان شيئا من التوقف وربما استخلاص الدروس قبل أن تبدأ الاحتفالات الجديدة.
الحدث الأول، افتتاح مكتبة الإسكندرية فى خريف (2002). بأى معيار له صلة بالحضارة الإنسانية فإن إعادة بنائها فى عصور جديدة كان بذاته إلهاما غير أنه تقوض قبل أن يتبدى أمام أصحابه الحقيقيين. فى احتفالات شبه امبراطورية حضر رؤساء وملوك أوروبا وغاب المثقفون والمواطنون. بدت الإسكندرية بلدا مهجورا، الشوارع خلت تماما من البشر، والمحلات جميعها أغلقت بينما الطائرات تحوم فى الجو. فرض ما يشبه حظر التجوال على مدينة فى يوم عرسها الثقافى.
وقد أفضت المبالغات فى الاعتبارات الأمنية إلى إجهاض أى معنى فى الاحتفالات الباذخة.
إلهام مثل هذه المشروعات الكبرى يستدعى رؤية حضارية عميقة لأدوار المكتبة تربط مصر وعالمها العربى بثقافة البحر المتوسط. غير أن التجريف الشامل على عهد «حسنى مبارك» لم يسمح بشىء من هذا الطموح.
يصعب أن يلهم بلدا تيبست قنواته السياسية والفساد ينهش فى جنباته. النموذج السياسى من مقتضيات أى إلهام ثقافى.
فى احتفالات «قناة السويس» للاعتبارات الأمنية ضروراتها القصوى بالنظر إلى التهديدات الإرهابية غير أن حضور المواطن العادى ممكن بسياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة تعلن انحيازها إليه وتلهم أملا فى المستقبل.
والحدث الثانى، وقائع المؤتمر الاقتصادى فى شتاء (2014). بدا التنظيم على درجة بالغة الاتقان غير أن المبالغة فى نتائجه قوضت صورته فى المخيلة العامة. لم يعد أحد تقريبا يتذكره رغم أنه لم يمض عليه سوى شهور.
تبدت قيمته السياسية قبل الاقتصادية ورمزيته غلبت استثماراته. لم نكن فى حاجة إلى أية مبالغات فى أرقام الاستثمارات المتوقعة.
ننسى أحيانا أن الناس سوف تسأل فى اليوم التالى: أين المليارات التى هبطت من السماء على صفحات الجرائد؟ أمام صدمة الحقيقة فهناك احتمالان.
أن تسود حالة إحباط عامة دون ضرورة حيث إن المصارحة بحقائق الاقتصاد المصرى وسبل تعافيه أدعى للثقة والبناء عليها.
أو إغلاق الملف كله وعدم العودة إليه مرة أخرى كأن المؤتمر كله لم يحدث رغم أهميته الرمزية الكبيرة فى توقيته ومستوى المشاركة فيه.
منزلق المبالغات قد يتكرر فى مشروع توسيع قناة السويس. قد يتصور الناس من صخب الأضواء أن دخل أهم ممر تجارى دولى سوف يرتفع بمعدلات قياسية فى مدى منظور للغاية.
بعد عام سوف يكتشفون بالضبط أن نسبة الزيادة لا تتناسب على أى نحو مع ما كانوا يتصورونه. أفضل التوقعات تميل إلى أن الزيادة فى دخل قناة السويس لن تتخطى الـ(15?).
بالأرقام: عبرت قناة السويس فى عام (1982) أكثر من (22) ألف سفينة، وهذا أكبر رقم فى تاريخها، بينما الرقم الآن فى حدود نحو (18) ألفا. لا يعنى ذلك أننا لسنا فى حاجة إلى توسيع المجرى الملاحى الدولى، فهذه حسابات مستقبلية لها قيمتها.
غير أن عدم المصارحة بالحقيقة له تداعيات سلبية عندما يطالع الرأى العام أرقام الزيادة فى دخل القناة بعد عام واحد. رغم أهمية الإنجاز فإنه ليس «قناة السويس الجديدة». هناك قناة سويس واحدة، لا ثانية ولا ثالثة.
أية مبالغات لا يعترف بها العالم. التوصيف الأدق لما جرى من إنجاز هو: «مشروع توسيع قناة السويس». هذا لا ينتقص من قيمته.
صحة التوصيفات من احترام الإنجازات. وقد استخدمت شركة «بوسكالس» الهولندية الشهيرة، التى ساعدت ضمن تحالف دولى من شركات مماثلة فى أعمال «التكريك»، هذا التوصيف.
بثت شريطا ترويجيا لأعمالها على شبكات التواصل الاجتماعى قبل الاحتفالات المصرية لخص المشروع كله فى خبرائها.
كل الصور لمهندسيها وهم يخططون وعمالها وهم ينفذون. المهندسون بوجوه أوروبية والعمال بوجوه أسيوية.
أين المصريون؟ لا حرف واحد. بل ولا ذكر لاسم مصر مرة واحدة. وهذا أمر لا يليق بشركة دولية مرموقة فى مجالها يستحق الحساب عليه. بحسب خبراء موثوقون كان بمقدور كراكات هيئة قناة السويس أن تتولى المهمة لوحدها لو أن فترة العمل كانت ثلاث سنوات.
لسبب سياسى قبل أن يكون فنيا بدت هناك حاجة ماسة للاستعانة بشركات دولية للانتهاء من العمل فى المواعيد المقررة. بالقرب من الاحتفالات وأضوائها هناك ثلاثة سيناريوهات للنيل من الإنجاز المصرى الجديد. الأول، المبالغة التى تجهض كل معنى مستحق وأى إلهام ممكن.
والثانى، نفى أن يكون هناك إنجاز قد جرى لحرمان النظام الجديد من أى رصيد إضافى. والثالث، اختطاف المشروع كله على ما فعلت «بوسكالس» الهولندية فى شريطها الترويجى.
فى السيناريوهات الثلاثة يغيب رد الإنجاز إلى صاحبه وتأكيد ثقة المصرى فى مستقبله. هذا ما نحتاجه بالضبط الآن أولا وثانيا وعاشرا وإلا فإن أية قيمة سوف تتقوض بعد أن تخفت الأضواء ويعود السكون إلى شاطئ القناة.
نقلا عن الشروق