رئيس التحرير
خالد مهران

الدكتور وائل كامل يكتب: تسليع التعليم في جامعاتنا الحكومية بين الربحية والجودة

النبأ

في العقدين الأخيرين، شهدت الجامعات الحكومية تحولات كبيرة في طريقة إدارتها وفلسفة تقديم خدماتها التعليمية. من أبرز هذه التحولات ما يمكن تسميته بـ "تسليع التعليم"، حيث تبنت المؤسسات التعليمية عقلية السوق وسعت لتحقيق الأرباح لتغطية ضعف مخصصاتها المالية، بعيدًا عن أهدافها الاجتماعية التقليدية في تنمية المجتمع. ورغم أن وجهة النظر هذه لها أسبابها ومبرراتها من وجهة نظر أصحابها، إلا أن هناك سلبيات لا يمكن إغفالها.

أحد أبرز مظاهر تسليع التعليم في الجامعات الحكومية هو تبني الجامعات لمفهوم "إرضاء الزبون"، بحيث أصبح الطالب يُعتبر "مستهلكًا" للخدمة التعليمية التي تقدمها الجامعات. هذا التحول يعكس تفكيرًا تجاريًا يعتمد على التنافس لاستحداث بنود لجلب موارد جديدة، مثل استحداث برامج أكاديمية خاصة ذات مصروفات مرتفعة. رغم أنه من المفترض أن يكون هناك تحديث مستمر للمناهج والتخصصات التي تقدمها الجامعات في التعليم المجاني للجميع، دون تمييز على أساس القدرة المالية، إلا أن هذا التحديث غالبًا ما يتم تحت مسمى "البرامج الخاصة" ذات المصروفات، مع إبقاء المناهج القديمة كما هي. وقد يترافق مع ذلك تخفيض في معايير القبول بالبرامج الجديدة؛ فالمهم هو بدء التسليع وجذب الإقبال لزيادة الموارد، وبتعبير السوق، "إقبال الزبائن"، حتى لو كان ذلك على حساب جودة التعليم.

بسبب ضعف الموازنات المخصصة للجامعات الحكومية والتضييق المستمر على مواردها، إضافة إلى الاستقطاع الثابت من وزارة المالية من كل جنيه تحاول الجامعات جلبه، وجدت الجامعات نفسها مضطرة للبحث عن طرق لتنمية مواردها. وقد شمل ذلك محاولة معالجة ضعف الرواتب من خلال العمل في هذه البرامج التي تدر دخلًا إضافيًا لقليل من الأساتذة. وبذلك، كانت الحلول تتمثل في استحداث برامج خاصة تهدف إلى تحقيق الربح للجامعات استنادًا إلى ميزان التكلفة والعائد، بحيث تُحدّد البرامج بناءً على الجدوى الاقتصادية بدلًا من المعايير الأكاديمية التقليدية. تُعطى الأولوية للبرامج الجديدة التي توفر دخلًا إضافيًا أو التي تحظى بإقبال جماهيري، بينما يأتي عمق الفائدة العلمية أو تطابقها مع معايير الجودة الأكاديمية في المرتبة التالية من الأهمية بعد زيادة الإيرادات.

يتم تقديم هذه البرامج على أنها "المنقذ" من التعليم التقليدي المجاني الذي يعاني من تراجع في جودته. تُسوَّق تلك البرامج بتقديم وعود للطلاب بفرص عمل مرموقة برواتب مغرية بعد التخرج، حتى لو كانت الوظائف مجرد أعمال خدمة عملاء في الشركات أو مندوب مبيعات، لمجرد أن لغة البرنامج التعليمي هي اللغة الإنجليزية. هذا يعزز من شعور طلاب البرامج التقليدية المجانية بأنهم يبددون طاقتهم في الحصول على شهادة قد لا تضمن لهم النجاح في سوق العمل بسبب عجزهم المالي الذي يحول دون الالتحاق بتلك البرامج الخاصة.

وفي سعيها لتوفير إيرادات إضافية، بدأت الجامعات تستخدم أدوات جديدة، مثل استحداث "الكتب التفاعلية" التي يتم تحصيل رسوم إضافية من الطلاب لاستخدامها، كبديل عن البحث في المكتبات التقليدية. ولكن غالبًا ما تكون مجرد استبدال للكتاب الورقي بالكتاب الإلكتروني. هذه الأدوات التعليمية الجديدة لا تهدف دائمًا لتحسين جودة التعليم، بل في كثير من الأحيان لتحقيق دخل إضافي للجامعة، وهو ما يضر أكثر مما ينفع. فهي تحول الجامعات إلى مدارس تعتمد على كتاب واحد لكل مقرر، بدلًا من تفعيل فلسفة التعليم الجامعي المبني على البحث والاطلاع واستخراج المعلومات من مصادر متعددة، مما يساهم في تهميش المكتبات الجامعية التقليدية ويضعف قدرة الطلاب على استخراج المعلومات والبحث عنها.

أحد الأبعاد الأخطر لهذا التحول هو أن المعرفة نفسها أصبحت تُعتبر سلعة قابلة للبيع، يتحدد ثمنها بناءً على العرض والطلب في السوق، بدلًا من كونها أداة لتطوير المجتمع وتوسيع آفاق الأفراد.

عندما تصبح الجامعات موجهة لتحقيق الأرباح، فإن التركيز ينصب على توفير البرامج الدراسية التي يقبل عليها الطلاب بغض النظر عن تأثيرها الفعلي على التنمية الاجتماعية أو الثقافية. بذلك تتحول المعرفة من "مورد اجتماعي" يخدم المجتمع ككل إلى "منتج اقتصادي" يهدف لتحقيق أقصى عائد اقتصادي ممكن، يتلاءم مع رغبات واحتياجات الطلاب كما يراها السوق.

يُعد "حساب التكلفة والعائد" أحد المحاور الأساسية في الإدارة الحديثة للجامعات. وبسبب الضغوط المالية، تركز الجامعات بشكل متزايد على كيفية تقليل التكاليف وزيادة العوائد المالية. وقد يؤدي ذلك إلى تقليص تعيينات المعيدين، ونقص واضح في الهيكل الإداري من الموظفين والعمال، خاصةً مع تقاعد الموظفين والعمال لبلوغ بعضهم السن القانوني للمعاش وعدم تعيين بدلاء لهم. إضافة إلى تقليص مصروفات الصيانة وموازنات البحث العلمي وزياراته الميدانية وايقاف السلف البحثية، والأنشطة الأكاديمية غير المربحة اقتصاديًا. هذه الإجراءات قد تساهم في تقليل النفقات، لكنها تؤثر سلبًا على جودة التعليم.

في سياق التحول إلى العقلية السوقية، يُركَّز على إنجاز العمل بأقل تكلفة ممكنة، حتى لو كان ذلك على حساب جودة التعليم. كل هذا من أجل تحقيق وفورات مالية، وهو ما يضر بالأساسيات الأكاديمية للتعليم ويُضعف قدرة الجامعة على توفير بيئة تعليمية تواكب المعايير الأكاديمية العالمية.

إن تحويل التعليم في الجامعات الحكومية إلى سلعة ليس مجرد تحول في طريقة تقديم التعليم، بل هو تغيير جذري في فلسفة التعليم ذاته. فقد انتقلت الجامعات من كونها منارات علمية تهدف إلى نشر المعرفة وتطوير المجتمع إلى مؤسسات تسعى لتحقيق الأرباح لتغطية عجز مخصصاتها المالية من وزارة المالية. هذا التحول قد يؤدي إلى تآكل جودة التعليم وانخفاض معايير القبول والتخرج، مما يهدد مستقبل التعليم في الجامعات الحكومية ويؤثر سلبًا على دورها الاجتماعي في بناء مجتمع قادر على مواجهة تحديات العصر.