رئيس التحرير
خالد مهران

سد إثيوبيا والتسجيل العقارى.. وأتيليه الإسكندرية

النبأ


(1)

حديث إثيوبيا المتكرر عن الاستمرار فى ملء السد، سواء تمت العودة إلى المفاوضات أم لا، يؤكد أنها مصرة على عدم الخضوع لمنطق التفاوض إنما فرض سياسة الأمر الواقع نعم اتفاق المبادئ 2015، يتحدث عن الملء المتوازى مع التفاوض، لكنه كرر كثيرا شرط «حسن النية» و«التعاون المشترك»، وليس الخداع. إن موقف السودان من ضرورة التوصل إلى «اتفاق ملزم» بخصوص السد الإثيوبى هو أمر مهم. نعم جاء متأخرًا، لكن أن تأتى متأخرًا أفضل من أن تبقى غافلًا حتى النهاية. الدائرة المفرغة للتفاوض التى تريدها إثيوبيا، ولعبة كسب الوقت، لن تفيد. فالنيل حياة أو موت بالنسبة لمصر والسودان، ولا هزل فى هذا، أبدا.

(2)

لو استدعينا كلام الدكتور زكريا عزمى عن فساد المحليات الذى وصل إلى الركب لاسيما بعد أن بلغ أيامها الرقاب، وحصرنا الأموال التى حصل عليها أغلب رؤساء الأحياء ومن دونهم بالوظائف الكبرى فى الإدارة المحلية على مدار ثلاثين سنة ويزيد، سيكون أكبر مما يتم تحصيله من رسوم تسجيل عقارات وفق التعديل القانونى الأخير. المواطن دفع مرتين، مرة مجبرا ومتحايلا على قانون صدر وقتها دون أى حوار حوله أو تمثيل برلمانى حقيقى يناقشه ويقره، وها هو مطالب مرة أخرى مع تعديل القانون بأن يتحمل وحده مسؤولية تصحيح الخطأ، بينما من أخطأ هرب آمنا بما سرق. لا يوجد أحد ضد التنظيم ومنع التمدد العشوائى للعمران، لكن هل هذا هو الهدف من التشريع الأخير بخصوص تسجيل العقارات؟ ربما يكون جزءا، لكنه ليس الجزء الأساسى على أى حال، فالعقارات محصورة فى سجلات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، وقد اطلعت على دفاترها الدقيقة فى شبابى وأنا أعد بحثا عن «القيم السياسية فى المحليات»، وأعرف أن الإحصاءات تتجدد باستمرار. وإذا كان الهدف هو منع التمدد العشوائى فإن لهذا طرقًا أخرى، تعرفها الدولة جيدا، وأولها أن تكون حاضرة فى التخطيط العمرانى.

( 3)

بدأت مصر نهضتها فى أول القرن العشرين باعتبار «الإنسان هو الثروة» ولذا تم التوسع التدريجى فى التعليم، وإقرار مجانيته، والاهتمام بالثقافة والمعرفة. لكن هذا التوجه الصحيح لم يلبث أن انحرف لتكون «الأرض هى الثروة»، فتم إهمال الإنسان تباعا، حتى أصبح ينظر إلى البشر الآن على أنهم عالة على الدولة، وأن تعليمهم وتنويرهم ليس هو المسألة الملحة والضرورية، بل تأتى فى مرتبة متراجعة على سلم الأولويات. ويا ليت الأرض التى تم تقديمها على ما عداها هى ارتباط الإنسان بالمكان، والموارد الطبيعية الموجودة على سطحها وفى باطنها، والاستعداد للدفاع عن التراب ووحدته، إنما هى «العقارات» فالأرض مجرد عقارات محتملة، فإن أقيمت فيها البنايات صارت عقارات واقعة، ينشط المقاولون والتجار والسماسرة فى سبيلها، ويعطونها كل الوقت والجهد والتفكير. ضمن هذه المعادلة لا تراعى حتى القوانين التى تتعلق بالمساكن أن هناك أشياء وأماكن لا تقدر بمال، وأن حضورها وتاريخها الرمزى أكبر بكثير من قيمتها المادية السوقية المتداولة.

وها نحن اليوم أمام اثنين منها، شقة بسيطة فى شارع قصر العينى يحل فيها «نادى القصة» و«فيلا أثرية» بنيت عام 1893 فى الإسكندرية يستقر فيها الأتيليه الثقافى للمدينة العريقة، حصل صاحباهما على حكمين باستردادهما من المؤجرين، فإن تم تنفيذه ستفقد الثقافة المصرية مكانين عريقين. فمن ذا الذى بوسعه أن يفرط فى شقة حل فيها طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وكل الذين ساروا على دربهم الإبداعى حتى أيامنا. ومن ذا الذى ينسى كل هؤلاء الكبار الذين استضافهم أتيليه الإسكندرية الذى ظل عقودا عامرا بصوت الأدب والفن والعلوم الإنسانية والطبيعية، وكذلك الكبار الذى انشغلوا بهذا الإتيليه منذ إنشائه وحتى يومنا هذا. لا أقول فى هذا المقام إن المطلوب هو أن نضرب بالأحكام عرض الحائط، لكن أن تقوم وزارة الثقافة بشراء المبنيين، فإن لم يكن لديها استطاعة فى هذا، فلتفتح باب التبرعات، وتخاطب قادرين مهتمين بالثقافة فى بلادنا، وأعتقد أن كثيرين منهم لن يتأخروا.

(4)

لم يفكر أحد من أهل الإدارة فى أن يقيم بين كل ألف كشك لبيع اللحوم والخضروات كشكين اثنين لبيع الكتب. واحد للكتب القديمة، وتجار «سور الأزبكية» مستعدون، والآخر للكتب حديثة الصدور، ودور النشر الحكومية والخاصة مستعدة أيضا. إن ملء البطون مهم، ولا أحد ينكر هذا، لكن العقول الخاوية لا ترفع أى بنيان، ولا يقام سلطان على جهل إلا إذا كان فارغا.

(5)

هبت عاصفة فاهتزت الشجرة وكادت ترمى باليمام والعصافير التى هربت من أعشاشها حين وجدتها تهوى على الأرض وتتطاير بعيدًا لم يكن أمامها من سبيل سوى أن تتجمع سريعًا فى الفضاء القريب وتشق الهواء العاتى بأجنحتها، ثم تهبط رويدًا رويدا وتنكمش فى الجهة المضادة لاتجاه الريح من الجذر العريض.

(6)

خرج القطار عن مساره، شحر وزمجر ثم توقف مكانه وغادره الركاب تغلب فرحتهم بالنجاة غضبهم من التأخير الاضطرارى سلك كل منهم سبيله إلى حيث يذهب وتركوا السائق الغشيم وحيدًا يقترب منه الليل فى هذا المكان البعيد عن العمران والذى يعرف الناس أنه مسكن للذئاب والثعابين السامة والخفافيش.