الهاجس الصينى فى رهانات بايدن
بحقائق القوة ومتغيرات العصور لم يعد ممكنا إعادة إنتاج النظام العالمى المتهالك.
لا الولايات المتحدة القوة العظمى المهيمنة ولا روسيا وريثة الاتحاد السوفييتى القوة العظمى الثانية على ما كانت عليه الأحوال بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا عالم انقضى بمقوماته وركائزه وتوازناته منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى عند نهاية الحرب الباردة ولا سبيل إلى استعادته، كما لا سبيل إلى استعادة انفراد الولايات المتحدة بالقوة والنفوذ، الذى أعقب تفكك الاتحاد السوفييتى وسقوط المنظومة الاشتراكية فى أوروبا الشرقية وتحلل حلف «وارسو»، الذى كان يوازن فى تلك الحقبة حلف «الناتو».
استعادة مصطلحات النظام العالمى المتهالك خروج عن الموضوع وتمسك فى غير محله بأهداب الماضى.
بدا مستلفتا إسباغ الرئيس الأمريكى «جو بايدن» صفة «حوار القوتين العظميين» على القمة التى جمعته فى جينيف مع نظيره الروسى «فلاديمير بوتين».
فى خلفية مشاهد القمة المثيرة بتوقيتها وأجوائها، كما فى لقاءات «بايدن» الأخرى مع الحلفاء الأوروبيين حسابات وتفاعلات توشك أن تعلن نظاما عالميا جديدا من تحت أنقاض جائحة «كورونا».
كانت الصين الغائب الحاضر فى صلب جولة «بايدن» الأوروبية، لا متواجدة فى المكان ولا مستبعدة من الحوارات باختلاف طبيعتها – الاقتصادية فى قمة «السبعة الكبار»، والعسكرية فى مداولات «الناتو»، والاستراتيجية فى لقاءاته مع الحلفاء الأوروبيين.
بدت الصين هاجسا مخيما على كل تلك الاجتماعات والقمم، بما فيها القمة الأمريكية الروسية.
حاولت جولة «بايدن» أن تستكشف فرص بلاده لاستعادة مكانتها الدولية، التى تضررت بقسوة فى سنوات سلفه «دونالد ترامب».
وحاولت بذات القدر قطع الطريق على الصين من أن تتقدم لمنصة القوة الاقتصادية العظمى الأولى فى غضون سنوات قليلة.
كان ذلك هاجسا معلنا على لسان أمين عام حلف «الناتو».
هكذا كانت الصين جوهر القمة الأمريكية الروسية دون تطرق إلى اسمها.
لم تكن القمة «تاريخية»، ولا ترتبت عليها تحولات «استراتيجية» يعتد بها فى المعادلات الدولية، لكنها لم تكن «اعتيادية».
جرت أحاديث عامة عن دور البلدين فيما أسمياه «الاستقرار الاستراتيجى» وإعادة الالتزام بالحد من التسلح النووى وفق اتفاقية «ستارت»، كما جرت مناكفات حول الملفين الأوكرانى والسورى دون أدنى اختراق.
بما هو ملموس وعملى تلخصت نتائج القمة فى إعادة فتح قنوات الاتصال الدبلوماسية الرسمية بين البلدين بعودة السفيرين، وإزاحة الجليد بين الرجلين بعدما وصف «بايدن» «بوتين» بأنه «قاتل» فرد عليه متمنيا له الصحة كأنه يريد أن يقول: «هذا رجل مخرف»!
بتلخيص «بايدن» لأهم ما جرى فى القمة أن «بوتين لا يريد حربا باردة جديدة».
كان ذلك تعسفا مع الحقائق الماثلة فى تفاعلات النظام العالمى الذى يكاد أن يولد، فالحرب الباردة بنت عصرها وتوازناتها وانقسام العالم إلى معسكرين كبيرين يقفان على نقيض سياسيا وأيديولوجيا واقتصاديا وعسكريا.
لا «بوتين» بوسعه أن يريد ولا «بايدن» بمقدوره أن يمنع، فهناك حقائق قوة تفرض كلمتها الأخيرة.
كان ذلك ما تبدى على سطح القمة، فيما كان المسكوت عنه أكثر أهمية وخطورة، إنه «الهاجس الصينى».
فى مقاربته الروسية مضى «بايدن» على خطين متوازيين بإبداء نوع من التشدد دون تصعيد فى لغة الخطاب المتفلت، هو نفسه لا يريد حربا باردة جديدة، إذا كانت للخيارات الشخصية دور فى تقرير مثل هذه الأمور!
بعض أسباب التشدد تعود إلى المساجلات الداخلية الأمريكية، التى تتهم «بوتين» بالتدخل فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التى صعدت بـ«ترامب» إلى البيت الأبيض عام (2016) بالحروب السيبرانية وغيرها.
وبعض أسباب انضباط الخطاب تعود إلى محاولة «فرملة» أى تقدم محتمل فى مستوى التحالف الصينى – الروسى، إذ إن مثل هذا التحالف بين القوة الاقتصادية الصينية والقوة الاستراتيجية الروسية وخبرتها فى إدارة السياسات الدولية كدولة عظمى سابقة يقلب الموازين الدولية تماما ويزيح الولايات المتحدة عن مكانتها المعهودة.
البحث عن استعادة المكانة الأمريكية جوهر جولة «بايدن».
نقطة البدء: ترميم التحالف الغربى، الذى تعرض لشروخ عميقة فى حقبة «ترامب» وإعادة رد اعتبار «حلف الناتو» الجناح العسكرى لهذا التحالف.
بصياغة أخرى: تجييش الغرب الأوروبى وراء القيادة الأمريكية على النحو الذى كان جاريا فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحييد القطب الروسى بقدر ما هو ممكن ومتاح عن التنازع المقبل على زعامة النظام العالمى الذى يوشك أن يولد.
ما هو تكتيكى من تحركات واتصالات وتصريحات يكتسب تفسيره الحقيقى مما هو استراتيجى فى الخيارات والأولويات.
هناك نوع من التقبل الأوروبى لعودة القيادة الأمريكية، غير أن الأسئلة الكبرى تطرح نفسها عن طبيعة العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية فى ظل الحقائق الجديدة وعن مفهوم الأمن الجماعى فى عصور متغيرة، وإذا كان من الأجدى البحث عن منظومة أمنية أوروبية بعيدا عن الولايات المتحدة.
الأوروبيون ليسوا على استعداد لتبنى الأجندة الأمريكية بكامل تفاصيلها، يدركون خطر التمدد الصينى على اقتصاداتهم، لكنهم يلمسون فوائد العلاقات معها.
بحسابات المصالح يصعب تصور أن يلتف الغرب الأوروبى حول الولايات المتحدة فى أية معركة مفتوحة مع التنين الصينى.
هناك مصالح متعارضة يصعب تجاهلها وتباينات لا يمكن القفز فوقها.
ثم إن المخطط العام، الذى طرحه «بايدن» على الحلفاء الأوروبيين لحصار النفوذ الصينى، يحتاج إلى تمويل اقتصادى ومالى يكاد يستحيل الوفاء به.
يقترح «بايدن» خطة تمويل كبيرة للبنى التحتية فى دول العالم الثالث الأكثر فقرا لوقف التمدد الصينى فيما يعرف بمشروع «الحزام والطريق»، الذى يوصف بأكبر مشروع للبنى التحتية فى تاريخ البشرية.
تلك مشكلة عويصة تعترض اقتصادات منهكة تحت ضربات الجائحة فيما الصينيون لا تعوزهم الوفرة المالية، يعملون على هذا المشروع بدأب شديد، يوقعون اتفاقيات مع دول العالم الثالث، خاصة أفريقيا والشرق الأوسط، يتبادلون المنافع، ويوفرون سلعا رخيصة تحت سقف استراتيجى يعرف ما يطلبه ووسائله إليه.
لا يعنى ذلك كله أن الطرق سالكة أمام الصين لتصدر النظام العالمى الجديد فى أى مدى منظور.
هناك اعتبارات أخرى، بالإضافة إلى القوتين الاقتصادية والعسكرية، أهمها القوة المعنوية التى تعوز الصين بقسوة فى إعلامها ومستويات الحريات العامة فيها.
إذا ما تمكنت الصين من ترميم الفجوة بين قوتيها المادية والمعنوية فإنها باليقين القوة العظمى الأولى بالقرن الحادى والعشرين.
نقلا عن "الشروق"