أمومة مع وقف الفرحة.. الدموع سلاح «ريهام» في وجه اكتئاب ما بعد الولادة
لم تكن تعلم ريهام علي، أن هناك شيئًا يُدعى اكتئاب ما بعد الولادة، بعدما أخبرها زميلها في العمل عنه، في أواخر فترة حملها التي أظهرت بوادر معاناة كبيرة ستعيشها ابنة الـ31 عامًا، وهي التي أجَّلت قرار الأمومة عامين كاملين، خوفًا من المسؤولية، متأملة أن تستمتع وزوجها بحياتهما، قبل أن تأخذهما دوامة المسؤولية التي اعتادت ألا ترحم أحدًا.
لم تُلق "ريهام" بالًا لما أخبرها به زميلها، بشأن القاتل الصامت، والذي لم يُعجبه سلبه أهميته؛ ليقرر أن تبدأ رحلة معاناتها مبكرًا وقبل حتى الولادة، بمشاعر رفض لمجئ طفلتها إلى الدنيا، ممزوجة بخوف وضيق، كإشارة إلى تجربة مريرة ستعيشها الأم دخلت عالم المسؤولية من باب الأمومة المحفوف بالمخاطر "أنا ما كنتش عايزة أولد بنتي، وكنت خايفة جدًا، ورغم كدا ما ربطتش بين كلام زميلي واللي بيحصل لي".
بضعة أيام مرت ووجدت الأم نفسها أمام الأمر الواقع، وفي اللحظة التي مدت يديها فيها لتضم طفتلها إلى حضنها، بدأت رحلتها المؤلمة في التجربة التي لطالما تجنبت خوضها، ولم تجد أمامها سلاحًا سوى الدموع، علها تخفف همها الثقيل، المصحوب بآلام الرضاعة طيلة أسبوع كامل، لم تكن تحتمل فيه إرضاع طفلتها، ولم يعرف النوم طريق جفونها، حتى أنه هجرها وهي في أمَّس الحاجة إليه، وباتت محاولات استراق غفوة لبضع دقائق جميعها فاشلة، ولم تكن فلذة كبدها السبب، لا سيما وأنها مع غفوة طفلتها يزيد النوم في هجره، ما إن يجدها تبحث عن أي شيء آخر تحاول الاستمتاع به، ولكن السر في ألاعيب اكتئاب ما بعد الولادة، الذي يُخيل لها أن طفلتها ستستيقظ في أي لحظة "كنت باتمنى أنام وأول ما بنتي تنام النوم يطير من عيني".
أكثر من ستة أشهر أمضتها "ريهام" تتنقل فيها مشاعرها بين ألاعيب القاتل الصامت، إلا أن أكثر فترة سوادًا كانت في النصف الأول من تلك الفترة، والتي راودها الموت فيها عن نفسها مراتٍ عدة، ولكن لم يكن لديها حتى الجرأة على التخلص من حياتها، وترك معاناتها خلف ظهرها، لحرمانية الفعل، رغم أن نظرتها للحياة وما فيها بأنها سيئة، ولجأت إلى زوجها بعد الله، مخاطبة كلاهما بأنها لا تريد الحياة، فقط الموت.. الموت هو ما سيخرجها من الظُلمات إلى النور "زوجي كان مسافر ونزل لي أول أسبوع، ودايمًا كنت أكلمه وأقول له إني عايزة أموت وأخلص، وطلبت من ربنا كتير إني أموت".
ضاقت أحضان الأمومة بما رحبت وأحكمت قبضتها على الأم، وأشعرتها أنها تعيش في كهف مُظلم اجتمعت فيه بأدوات تعذيب نفسية عدة، فالحياة سوداء في أعينها، وعقلها لم يستوعب أن ما يحدث سيمر، وهي التي حصلت على إجازة من عملها للتفرغ لرعاية طفلتها، ولم تجد متنفس واحد للهروب ساعات قليلة من كهفها المُظلم.
سجن اكتئاب ما بعد الولادة الذي احتجز "ريهام" بداخله، لم يجعلها تلجأ إلى طبيب، واتخذت من زوجها معينًا لها في محنتها، وهو الذي لم يبخل عليها بالدعم والنصائح، حتى إنه طلب منها أن تترك طفلتهما مع أسرتها وتخرج خارج البيت علها تشعر بتحسن، وصفة الزوج أتت ثمارها وفي كل مرة كانت تخرج فيها الأم دون طفلتها، كانت تشعر وكأنها حصلت على حُريتها، ملوحة بيدها إلى ذلك السجن الذي كان أداة من أدوات القاتل الصامت، للعب بأعصابها.
الانتصار الصغير الذي حققته الأم أرَّق مخططات اكتئاب ما بعد الولادة الذي أرادها أن تكون حبيسة مشاعر بشعة، وميول انتحارية، وانتقل بأفكاره ووساوسه من الكهف المُظلم إلى البراح، وراح ينُغص عليها لحظات حريتها التي كانت تسترقها، بعدما قررت أن تشاركها مع أسرتها وطفلتها، فعادت للبيت ثانية، خلف أسوار سجنها، ولكن لم تستسلم إلى اكتئاب ما بعد الولادة وسخافاته، وبدأت تتعافى تدريجيًا، في رحلة تشافي كان إصرارها وزوجها وأسرتها، هم عوامل نجاحها.
التجربة التي عاشتها الأم جعلتها تتعاطف مع أُم تمُر بتجربتها، للدرجة التي دفعتها إلى تدشين مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لدعم الأمهات المصابات باكتئاب ما بعد الولادة، لا سيما بعد حادث الأم التي تخلصت من أطفالها الثلاثة وحاولت الانتحار "أنا حاسة بكل أم بتمر بنفس تجربتي، خصوصًا سيدة الدقهلية اللي قتلت أطفالها التلاتة، أنا مشفقة عليها ولذلك عملت مجموعة لدعم الأمهات اللي بتعاني من اكتئاب ما بعد الولادة".
عامين ونصف العام مروا، على تجربة "ريهام" القاسية، إلا أنها مشاعر الخوف والقلق، والرغبة في الموت تزورها من حين لآخر، مع كل خطوة جديدة تُقبل عليها طفلتها.