إيجابيٌ رغم أنفه!
شاءت ظرُوفها التعيسة، أن تقف في عربة القطار المُنطلق من القاهرة إلى مدينة طنطا محطة نزولها بعدما لم تجد مكانا للجلوس؛ إذ إن الوقت هو موعد رجوع الموظفين وطلبة الجامعات إلى مواطنهم الأصلية.
لم تمض على وقوفها دقائق حتى أخذ القطار يضيق بالركاب رويدًا رويدًا، وصار عند انطلاقه أشبه بعُلبة (السردين) ليس فيه موضعٌ لقدم، وأضحى من استطاع الوقوف على رجليه داخل العربة من ذوى الأملاك يحسُده من وقف على درج باب القطار المفتوح على مصرعه، يُحاذر السقوط المُفضى لا محالة إلى الموت.
من بين الركاب، كانت هناك فتاةٌ في ريعان الشباب، طاغية الأنوثة، حباها الله جمالًا يخطفُ الأبصار، وهو ما جعل كلَّ من يدلف من باب الدخول يقف بجانبها؛ عساه أن يظفر بحركة رمش، أو إرناءة لحظ، أو نغمة صوت تُنسيه غصة الزحام الأشبه بيوم الحشر.
ضاقت الفتاةُ ذرعا بازدحام العربة، وما استتبعه ذلك من نظرات فتاكة، وأياد طائشة التطمت بها بين الحين والآخر، وبرر أصحابُها -كذبا- بأن ذلك كان عن غير قصد.
أبصرتُ المشهدَ عن قرب، إذ كنتُ أحد المحظوظين بتلك العربة ممن ظفروا بمقعد للجلوس حتى محطة النزول، فراعنى ما تُعانيه الفتاةُ من مضايقات تصبب لها وجهُها عرقا، وتفصد جبينُها، فهمتْ بالنزول قبل انطلاق القطار، ولكن هيهات لها أن تصل إلى الباب.
من الوهلة الأولي، حدثتنى نفسى بأن أقوم لها لتجلس مكاني، فخانتني رجلاي مخافة ما ينتظرُني إذا أقدمت على تلك الخطوة الجريئة من التطام، والتحام، وعرق للرُكب، وربما (سرقة حافظة النقود)، وكسر (نظارة القراءة) التى علقت بجيبى، فتراحعتُ عن الفكرة.
لم يتركني وخزُ ضميري، وإشفاقي على الفتاة، التي أحاط بها الشبابُ إحاطة السوار بالمعصم أهنأ بالجلوس على مقعدي الصُلب، الذي إذا ما قورن بالوقوف كان ألين من ريش النعام، فبلعتُ (حبة شجاعة) ونهضتُ واقفا تاركا مقعدي- الذي لو شئتُ لأخذتُ عنه (خلو رجل) - لتلك الفتاة المسكينة، التى ثمنت صنيعى، وانبرت تشكرني، وتدعو لي.
مشهدٌ.. كثيرًا ما نراه في المواصلات العامة أو في طابور إحدى الجمعيات التعاونية، أو أمام مخبز أو مصلحة حكومية، حيث يتصارع الجميعُ للوصول إلى مأربه، وقضاء مصلحته، دون الالتفات إلى ضعف امرأة أو براءة طفل أو أنات مريض، أو توسلات عاجز، فصار لسانُ حال الكل: (أنا ومن بعدى الطوفان).
وهنا مكمنُ الخطر؛ لأننا أمةٌ يتنامى عددها عامًا بعد عام رغم ثبات الموارد، فصار ما كان يتنعم به الفرد أمس ملكا للعشرات بل المئات اليوم، بمعني أنه قلتْ الفرص، وزاد العدد!.
وتعايشا مع تلك الأزمة (أزمة زيادة العدد وثبات الموارد) لا بد لنا من القناعة والرضا، والتعاون على البر والتقوى، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المُحتاج، ونُصرة المظلوم، ورحمة الضعفاء؛ لكيلا نصير سباعًا ضارية يأكل القوى الضعيف، ويبطش ذو العز والسلطان بمن لا شوكة له ولا عزوةَ تحميه.
إن ديننا دينُ رحمة، يدعو إلى التعاون ومكارم الأخلاق، ويرفض الفسوق والعصيان، وأيُّ فسوق أشدُ من قهر صبي، وظلم امرأة، وغض الطرف عن استغاثة مُحتاج وأنين مكلوم، وأكل أموال الناس بالباطل؟.
أيُّ ظلم أشد من تعطيل مصالح المواطنين، بحجة أن السيد المسئول (معه تليفون) يُناقش فيه مع حرمه المصون قضايا الساعة مثل: ماذا أعدت على الغداء؟، وهل جهزت الأسرةُ نفسها لحفل المساء وخلافه؟!.
أيُّ ظلم أشدُ من حبس أوراق الناس في الأدراج؛ انتظارًا لمظروف محشو ببنكنوت مقابل تأدية الخدمة، وعدم تعطيل المصلحة؟، أيُّ ظلم أشد قُبحا من أن يدفع المرءُ الرشاوي المُقنعة، والمُقننة - المُسماة زورا بالإكرامية- ليلتحق ابنُه بأفضل الكليات، ويُحرمُ ابنُ من لا يقدر على دفع الرشاوى حتى ولو كان هو الأكفأ والأحق؟.
أيُّ ظلمٍ أشدُ من السلبية ورفع شعار (الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح)، وما يستتبعُ ذلك من صمت عن قول الحق ومُجابهة كلِّ صور الفساد، سواء في العمل أو البيت أو الشارع أو المتجر وخلافه؛ مما اتسع معه الخرقُ على الراقع فضاعت حقوق، وظُلم أشخاص، وفسدت أمةٌ كانت وستظل خيرَ الأمم إذا ما حرص أفرادُها على أن يكونوا إيجابيين!.