رئيس التحرير
خالد مهران

غريق في شِبر مَيَّه!

صبري الموجي يكتب:
صبري الموجي يكتب: غريق في شِبر مَيَّه!

لم يبق إلا سوادُ الليل، وتنطلق رحلتُنا المدرسية إلى مدينة الإسكندرية عروس البحر المتوسط؛ لنستمتع بشواطئها الذهبية، وبيوت الرمال -التي يأتي الموج فيدك حصونها وتصير أثرا بعد عين، بل ويزول الأثر أيضا- ولنفرحَ بمُداعبة الأمواج و(وشوشة الأصداف) دون أن نعرف ماذا نقول لها، ونستأجرَ قوارب مطاطية تحملنا على صفحة الماء إلى داخل البحر بعيدًا عن الضوضاء والبشر لننعم بزرقتي الماء والسماء، وسقوط الشمس عند الغروب في صفحة مياه البحر الواسعة.

وحيث إنها سويعاتٌ قليلة بيني وبين تلك الأُمنية المرومة، أسرعتُ إلي (حصَّالة) نقودي، التي هي عبارة عن كوز من الصفيح به فتحةٌ من أعلى، اعتدتُ أن أسقط فيها ما أدخره من نقودي انتظارا لهذا اليوم الحافل، وأخرجت ما فيها بعد تحطيمها بـ( أجَنَة) وشاكوش، وأسرعتُ لشراء: (البيض،  والجُبن، والحلاوة الطحينية)، وأحضرت مع هذا كله (كيسا) من خبز الفينو كُنتُ قد حجزته قبلها بيوم مخافة أن ينفد، وساعتها سأُرغم آسفا على الخبز البلدي.

في محل البقالة، أنفقتُ كل نقودي ثقةً بأنني سآخذ مصروف جيبي من والدي، ثم أعود في خِلسة وآخذه من أمي أيضا بعدما تُوصيني قائلة: (لا تُخبر أباك وأخواتك)، وبهذا سيتوافر معي ما أحتاجه من مال أضمنُ به رحلة سعيدة، وأشتري ما أريد من طعام وشراب ولُعب.

أحضرتُ كل مُستلزماتي، ودفعت بها لأختي (ثناء) لتجهيز السندويتشات، وجلستُ أراقبها حتي لا تطيش يدُها وتأكل شيئا مما اشتريتُ، فكنت أشبه بحارس نوبتجي جلس أمام زنزانة يُكافحُ النُعاس مخافة هروب اللص.


أعدتْ أختي السندويتشات ولفّتها في أكياس من (النايلون) ودستها بحقيبة ملابسي، وتأكدتُ بنفسي من إحكام غلق الحقيبة، ووضعتُها تحت سريري خشية أن تعبثَ بها يدُ عابث.

في حجرة النوم مكثتُ أكافحُ من أجل أن تغفو عيناي ولو ساعة واحدة، وهيهات لي أن أنام، إذ إن الفرحة والانتظار طيّرا النوم منهما، وظللت أترددُ بين السرير والنافذة أُراقبُ طلوع الفجر الذي طال انتظاره، فتمنيت أن أكون جراحا أخرجُ الفجرَ من رحم ذلك الليل الأسود الطويل.

بطيئا انجلي الليل، فقمتُ في عَجل واستبدلتُ ملابسي، وصليتُ الصبح، وحملتُ حقيبتي على ظهري، وقبل أن أنطلق إلي الشارع، قرعتُ باب حجرة نوم والديَّ لأودعهما وأخواتي قبل الخروج، خاصة أن هذه هي المرةُ الأولي التي سأغيبُ فيها عن البيت أسبوعا بأكمله.

بعد مُصافحة الأهل، والاستماع إلي توصيات والديَّ، التي لم أعقل منها شيئا، إذ إن لهفتي على الخروج جعلتني أتلقي هذه التوصيات بـ(ودن من طين وأخري من عجين) فلم يعلق بذهني منها شيء، انطلقتُ إلي الشارع أُوسع الخطي؛ لأصل إلي محطة انتظار (الباص) بجوار المدرسة الابتدائية في مدخل قريتنا من الجهة الشرقية.


في الموعد المُحدد وصل الأتوبيس، وبداخله مُشرف الرحلة، الذي أسرع يُنادي من كشف بيده علي المشتركين، ويُحدد لكل تلميذٍ مقعده.


انطلق بعدها الأتوبيس يُسابقُ الريح، ونحن بداخله نُغني في مرحٍ لم يعكر صفوه سوي صوت مُشرف الرحلة (النشاز).


كان مشرفنا يُغني بصوت مبحوحٍ، لعنَّا بسببه الغناء والطرب، خاصة أنه اختار أغنية، تفتقرُ كلماتها للمعني والذوق تقول: ( أنا الوابور، أنا الوابور أسود وغطيس، واللي أدوسه يموت فطيس حتي ولو كان شيخ البلد)، فنُرددُ خلفه - بوصفنا كورال  الفرقة - حتي ولو كان شيخ البلد، فينتفخ صدرُ المشرف تِيها، ويرسخ في وجدانه أن صوته عذبٌ، يفوق في جماله صوتي عبد الوهاب والعندليب، بينما نقول نحن في قرارة أنفسنا ليته يسكُت!.


وصل الباص إلي مدينة الإسكندرية، فأدهشني اتساعُ البحر وزرقة مياهه، وامتدادُ صفحته، التي عانقت مِظلة السماء عند نهاية الأفق، ليؤكد هذا التصافحُ والعناق معني السلام الذي أفسده العالمُ بصراعاته وحروبه.


سريعا دخلنا نُزُل الإقامة، وعرف كلٌ منا غرفته، ووضع ملابسه ومُتعلقاته بدولابه الخاص، ثم تناولنا طعام الغداء قبل الاستجابة لدعوة البحر، ومغامرات السباحة والعوم، الذي كنا نجهله تماما!.


كان شاطئ الشاطبي هو أول علاقتي  بالبحر، ويبدو أن بَركة هذا الولي هي التي أنقذتني والكثيرين من غرقٍ مُحقق، إذ لمسَ فينا حارسُ الشاطئ الجهل بالسباحة والعوم، وأننا لا نعرف من البحر إلا اسمه، فأوصي (مُشرف) الرحلة ذا الصوت الندي، بأن نبقي في مكانٍ حدّده لنا، خاصة أن مستوي الرمال فيه مُرتفع، ولا تتجاوز أمواجُ البحر فيه مجرد الرُكب.


امتثلنا لتوجيه حارس الشاطئ؛ إيمانا بأنَّ( أهلَ مكة أدري بشعابها)، وانطلقنا نلعب، ونداعب الأموج بلا خوف ثقة بأن المكان بعيدٌ عن الغرق.


أمضينا سحابة اليوم دون أن نبرح مكاننا، حتي ارتمت إلينا من حيث لا ندري كرةُ قدم، وجاء صبيٌ لأخذها، فدار بينه وبين مُشرفنا (العندليب) حوارٌ، جعل الصبيَّ يتأخر عن أمه، التي أقبلت تتساءل عن سبب تأخيره.


أتت الأمُ وليتها لم تأتِ، إذ كانت في إقدامها: هيفاء مُقبلة عجزاء مُدبرة.. لا يُشتكي قصرٌ منها ولا طولُ.


نادت الأم علي ابنها بصوت فيه غُنج: ( اتأخرت ليه يا ميمي)، وقالت للمشرف بعدما كسرت له جفنها، وأسبلت أهدابها، ونغَّمت صوتها، وأرجفت كلماتها، وسلطتْ عليه نظرة طويلة أسلبته لُبه، وخلعت قلبه من مكانه: أعطه الكرة يا حضرة.


فغر المشرفُ فاه، وتلعثمت كلماتُه، ورمي الكرةَ لابنها دون أن يُحرك ساكنا، بعدما طعنته بخنجرها الماضي الفتاك.


انصرف ميمي وأمه، إلي مكان لعبهم، وكان يبعدُ عنا بمسافة قليلة، إلا أن منسوبَ الرمال به منخفض، فساقنا المشرفُ إلي ذلك المكان المشئوم كما تُساق النعاجُ أمام الراعي، وهي تهزُ أعناقها، وتُرخي آذانها دون أن تملك قدرة مراجعته أو الاعتراض عليه، ضاربا بتوجيهات حارس الشاطئ عرض الحائط؛ رغبة في اللعب مع ميمي، كما أخبرنا، ولكنّ باطنه يقول: ( من أجل الورد ينسقي العُليق).


أخذ المشرفُ بض الجسم يلعب ويلهو مع ميمي، ويختلقُ المواقف ليظفر من أمه بغمزة عين، أو حركةِ رمش، أو ابتسامة وجه، أو كلمة رقيقة تُطفئ نار فؤاده المضطرمة.


وفي غمرة اللهو واللعب، إذا بصافرات التنبيه تنطلق، وإذا بالبحر يُكشر عن أنيابه فيرتفع موجُه، ويشتد مده وجزره، كما لو كان يعترضُ علي سلوك ذلك المشرف المراهق، وبعدما كان الموجُ لا يتجاوز الرُكب، ارتفع وبلغ الرقاب، بل وغطاها. 


خرج المصطافون من البحر انتظارا لهدأة صولته، بينما ظللنا نحن ومشرفنا ككرة يعبث بنا الموج، فنفرحُ حينما يدفعنا للشاطئ مدُه، ونصرخ حين يسحبُنا للداخل جزره، حتي صار غرقُنا نحن ومشرفنا (صريع أم ميمي) وشيكا، إذ سقط المشرفُ بجسمه البض الممتلئ، على ظهره، فبدا أشبه بفرس النهر، وكاد يغرق لولا أن تداركته عنايةُ الله، ويدُ الحارس.


على خشبةِ مسرح البحر الصائل، لعبتُ دور الغريق، فظللتُ أتأرجح بين المدِّ والجزر ككرة يتقاذفها لاعبان، وفي إحدي مرات الجزر غطي الماءُ رأسي، فأدركتُ أنني هالكٌ لا محالة، فدار في ذهني شريطُ الذكريات، فتذكرتُ أبي وأمي وأخواتي وأصدقائي والسندويتشات التي (دفعتُ فيها دم قلبي)، و.....، وبينما أنا أصارع البحر خشية الغرق، ومخافة أن أصير طعاما للسمك، الذي كنتُ أتلذذُ بتناوله أمس، وقبل أن يبتلعني البحر، تشبثت بيد صديقٍ لي، كان يُعاني الغرق مثلي، فاستقمتُ واقفا ويدي مرفوعة إلي أعلى.


لمح حارسُ الشاطئ أصابع يدي، فأسرع بحملي وإخراجي من البحر، وألقاني قُرب الشاطئ؛ ليعود سريعا لإنقاذ غيري، فأعادني الجزرُ إلي داخل البحر مرة ثانية، فأدركني الحارسُ من جديد، وهم بإلقائي في نفس المكان الذي عُدتُ منه من قبل فاستحلفته بأن يحملني للرمال الجافة؛ مخافة أن يبتلعني البحر مرة ثالثة، إذ كان يصدق عليّ آنذاك: (يغرق في شبر ميّه).


انتهي اليومُ بسلام بعدما أدركتنا العنايةُ الإلهية، فعزمنا ألا يتجاوز ماءُ البحر كعوبَنا بقية أيام الرحلة، وشققنا عصا الطاعة علي المُشرف الذي أفسدته علينا أمُ (ميمي).