أحمد يوسف عبد الجيِّد.. ومشرط الجراح!
عزمتُ أكثرَ من مرة أن أتناولَ بعضًا من سِيرته، وفي كل مرةٍ أعودُ أدراجي، وينثني عزمي لأسبابٍ أهمُها أنَّ صاحبنا في عِداد الراحلين، والحديثُ عن هؤلاء يتطلبُ مُراعاة مَقام الموت، فيبعُد عن الطرائف والنكات، وهذا لا يمكنُ بحالٍ مع الساخر الجبَّار أحمد يوسف عبد الجيد -طيب الله ثراه- وبناء عليه فسأتركُ لقلمي حبله على الغارب، ولبصري إنعامَ النظرِ في سيرة نوادره، وأبدا لن ينقلب إليَّ بصري خاسئا وهو حسير.
وبعد هذا أستميحُ أهلَه وذويه عذرا، إن لمسوا فيما أكتبُ تغليبا لجانب الفُكاهة والمرح، اللذين كان يبحث عنهما الفقيدُ بـ "منكاش"، ويحرصُ علي أن يُقيمَ بينه وبين الحزن أسوارا سميكة، أحكمَ رِتاج أبوابها بأقفال من حديد!.
كما أستميحُ القارئ عُذرًا إن وجد لفظًا جريئًا ما قصدتُ من ورائه أبدا إيذاء السامع، ولكنها ضرورةُ المقام، وأنتم سادةُ العارفين أنَّ لكلِّ مقامٍ مقال.
أُوتي الفقيدُ أحمد يوسف من سُرعة البديهة، وحضورِ الذهن، وخِفةِ الظل ما جعله زينةَ المجالس، وكيف لا وهو ابنُ جلا وطلاعُ الثنايا فيما يتعلق بأمر التقريع، إذ كان في تقريعه جبَّارًا لا يُباري، تنتهي إليه الكلمةُ في مجالس الأنس و"الفرفشة" ليكونَ له فيها فصلُ الخطاب.
في مجلس شيخنا عبد العظيم أبو صالح، أو أتيليه الفقيد مصطفي عبد السميع "أبو العُريف" كانت تنعقدُ حلباتُ الهجاء ومجالسُ السمر، التي يتباري فيها الجميع، فيقدح كلٌ زِناد فكره لاستحضار، وسرد مواقفَ ساخرة ميزت كل عائلة من "عوائل" القرية، وحرص أصحابُها علي إخفائها لكيلا يصيروا مجالًا للتندر، ومثارًا للتفكه كعلكة تمضُغها الأسنان.
ورغم أن تقريع هذه "الشلة" كان أمضى من الحُسام المُهند، إلا أنهم اضطروا إليه؛ التماسًا لرسم البسمةِ على شفاههم آخر يومهم بعدما أمضوا سحابةَ نهارهم في الجري وراء لقمة العيش.
تخرجَ أحمد يوسف في كلية التجارة، وعمل بالإدارة الأزهرية ببنها، فكان بالنهار "أفندي" أنيقَ الهندام بقميصه "المنشي"، وبنطاله "المفرود" بمكواة الرجل، وحذائه اللميع، وشعره المرجل، والذي أماله يسارا؛ ليخفي صلعَ رأسه، وبعد الظهر عمدةً أو شيخَ بلد بجلبابه البلدي واسع الأكمام، والذي قلَّما كان يلبسُه، إذ كان كثيرا ما يرفعه على كتفه، ويسير في سِكك وشوارع القرية بقميصه الأبيض الناصع، يعلوه "صديري" مُخَطط تلمع أزراره في ضوء الشمس، وتهتز أثناء مِشيته يداه الشبيهتان بمجدافي قاربٍ يشق صفحة نهر.
في صُحبة زوجته الوفية أم يوسف دأب الفقيدُ يسير مُختالا كـ "ديك" شركسي، أهَّله ريشُه الزاهي ليكونَ أميرا علي حظيرة الدجاج، أو كـ "غرابٍ" مشي "يتحنجل" يُحاذر يدَي الصياد، وهكذا كان الفقيد -يحذر- أن يُمسكَ عليه أحدٌ موقفا، أو يتصيد له "قَفشة" تحرمه لذةَ النصر في مجالس السمر آنفة الذكر.
في واقعة قصم فيها أحمدُ ظهر خَصمه، استلهمها من قصةِ أقذعِ بيت شعر قالته العرب، والذي هجا فيه الأخطلُ بني تميم بقوله: قومٌ إذا استنبح الأضيافُ كلبَهم... قالوا لأمهم بولي على النار.
حكى أحمد أن أمَّ فلانٍ (...) اعتادت أن تبيتَ فوق السطح عارية، فصادفتْ في إحدى المرات استدارة القمر ليلة البدر، فنظرت لنفسها علي هذه الهيئة، ثم نظرت للقمر، وقد أحاط كفاها بخَصرها، وخاطبته قائلة: ( فَشَرْ.. أنا أصبي منك).
ألقمتْ هذه الحكايةُ خَصم أحمد حجرًا، فتكأكأ الجميعُ عليه؛ ثأرا لهذا المهزوم، وحكوا أنه -يعني أحمد- خرج يومًا إلى الحقل، وفي عَقِبه خرجت زوجتُه أم يوسف تحمل علي رأسها "مِشنة" الغداء، وغابا بالحقل فترة، ثم نكصا راجعين، وطفق أحمدُ يختالُ في مِشيته لسانُ حاله يقول: "يا أرض اتهدي ما عليك قدي"، وفي الطريق مرَّ أحمدُ على "المِعلم" عبده عبد التواب "شيخ الجزارين" دون إلقاء السلام، إذ كان سادرا في فكره، فناداه المعلم عبده صارخا: "حنانيك يا أبو يوسف.. المِشنة كان فيها 4 بيضات، ولم يكن فيها عِرق فليتو، ولا تربيانكو" !.
وحكوا أيضا أنه حُجز يوما بمستشفي الجامعة لإجراء عملية جراحية، وبينما هو جالسٌ، يُطالع إحدي الصحف لحين قدوم الجراح، سمع زائرًا يقول لأحد المرضي بجواره: " احمد ربنا يا شيخ إن الجراح الفلاني لم يُجر لك العملية، حيث تسبب في إصابة مريض سابق بالعقم بعدما جار مشرطُه علي موضع تناسله"، فأسقط في يد أحمد واختلج، وزمَّ علي شفتيه، وما إن رأي إحدي الممرضات حتى تنفس الصعداء، وسألها عمن سيجري له الجراحة، فقالت: الطبيبَ الفلاني، وكان هو نفس الاسم، الذي قطع خِلفة صاحبه، فقفز أحمد كمن عضه ثُعبان، وطفق يهدرُ وهو يقفز دَرجَ النزول ويُردد: "قَطع الخِلفة.. ياواقعة سودة"، وظل على حاله تلك حتي وصل إلي بوابة الخروج، التي لفظته إلى نهر الشارع دون أن يكبح أحدٌ جِماحَه.
ورغما عن خفة ظل الفقيد، فقد كان خدومًا إلى أقصى درجة، لا يألو جهدا في مدِّ يد العون لكل محتاج، كما كان "صاحب" صاحبه، سبَّاقا في قضاء الواجب "فَرَحًا كان أو ترحا"، مُخلصا في عمله، فأهله إخلاصُه ليُعار مُلحقا تجاريًا بإحدي الدول الأسيوية عدة سنوات.
هذا إضافة إلى أنه كان بارًا بوالديه وأرحامه أروع ما يكون البر، وفيا لرفيقة دربه أمِّ يوسف، عطوفا علي أولاده.. رحم الله الفقيد وأجزلَ له المثوبة.