جمال سعد حاتم و"إكسسوار" العِجل!
حملتْ إلي مؤخرًا موجاتُ هاتفي المحمول صوتا مهدودًا مكدودًا، يعتريه الصمتُ؛ ليلتقط صاحبُه أنفاسَه، ثم يستأنفُ كلامَه، والذي خرج بصعوبة خروج "السفود" من الصوف المبلول.
أثار صاحبُنا لواعجَ نفسي، وهيَّج فؤادي، وهو يقول بصوت يخنقه بكاءٌ مكتوم: "أسألك ألا تنساني من صالحِ دعائك".
توا عَرفتُ صاحبَ الصوت، الذي كان رغم ضعفه مازال يحتفظُ ببعضِ رونقه وجماله تماما كوجه مُغضن، بدتْ من بين غضونه أماراتُ جمالٍ قديم، وسحرٍ أخاذ.
سريعًا رددتُ، أما عن دعائي لك، فهو أمرٌ قائمٌ ودائمٌ معًا؛ لما عرفتُه عنك من نُبلٍ وورع، وسخاءِ يد، وإسداء نُصحٍ، وغيرها من صفاتٍ أُجزمُ أنك كنتَ فيها نسيجَ وحدك، كما لو كنت رجلا من زمن السلف، نزل بين ظهرانينا؛ ليُقوم سلوكنا، ويأخدَ بأيدينا إلى سُبل الرشاد!.
وأما عن مرضك، فأنت -سيد العارفين- أنَّ الله ما خلق داء، إلا وخلق له الدواء، وأن المرء يُبتلى على قدر دينه، وأن البلاء ليس دليلا على عدم رضا الله عن العبد، بل العكسُ هو الصحيح؛ لأنَّ أشدَّ الناس بلاءً الأمثلُ، فالأمثل، وهذا ما ألفناه مع خِيرة خلق الله الأنبياء، خاصة نبينا محمدا، الذي عانى في مرضه ما لم يتحمله بشر، ورغمًا عن هذا صبر واحتسب.
صاحبُ الصوت -الذي أسأل قارئي العزيز- أن يدعوَ له آناء الليل، وأطراف النهار؛ لما له من فضلٍ على كثيرين ممن عملوا ببلاط صاحبة الجلالة هو الأستاذ جمال سعد حاتم، رئيس تحرير مجلة التوحيد السابق، والمتحدث الرسمي باسمها.
عرفتُ الرجل منذ عدة سنوات، وكنتُ على فتراتٍ تطول أو تقصر، أهتبلُ فرصةَ لقائه بمكتبه بمقر مجلة التوحيد بقولة بعابدين، حيث مقر صرح جماعة أنصار السنة الشامخ، الذي وقف كفنارٍ يكشفُ معالمَ الطريق، ويهدي الناس إلى سُبلِ الهدي والرشاد.
في مكتبِ جمال حاتم، التقيتُ شيوخَ السلفية الكبار، وعلى رأسهم والدنا الشيخ د. عبدالله شاكر، أستاذ العقيدة الثَبت، رئيس جماعة أنصار السنة، ورئيس مجلس شوري العلماء، الذي اعتدنا في حضرته أن ننهلَ -من معينٍ لا ينضب، وبحرٍ لا ساحل له- علما وخُلقًا وتأصيلًا، إذ كثيرا ما كان يفدُ إلى مكتب جمال حاتم بصحبة علماء المجلة الكبار، فيبدو وسطهم كقمر أحاطتْ به نجومٌ لامعات.
مارس، جمال حاتم مهنة الصحافة، إثر تخرجه في قسم الإعلام، فكانت له حواراتٌ صحفية جادة وُمتزنة، حريٌ بأن تُقررَ على طلاب الإعلام، ليتعلموا كيف تُعدُ الأسئلة، وماهي أهم المحطات التي لا بد أن يُركز عليها الصحفي في حواره مع المصدر، وكيف تُكتب العناوين، المُثيرة والصادقة في آن واحد لتجذب القارئ، وفضلًا عن هذا كله، كيف يغوصُ الصحفي في لُجج المصدر دون قِحة مُنفرة، أو تزلفٍ رخيص.
كما كانت له تحقيقاتٌ رصينة، تُشير إلى مواطن الخلل، وتطرح قضايا شائكة وشائقة معًا دون أن ينسي جمال استنطاق مصادره عن طرق العلاج، وسُبل الحل، ليتفادى بثَّ الروح السلبية رافعا شعار: "بشروا ولا تنفروا".
وبجانب هذا وذاك، كانت له مقالاتٌ تُشير إلى موطن العلة، ولا يفُوتُها أن تُقدم الترياق الشافي، والعلاجَ الناجع، وقد تنوعت مقالاتُه بين اجتماعية، وسياسية مُزدانة بخبرةالسنين، لسان حالها: "انقُد بلا تجريح، والفت نظر المسئول بلا شتم"، وهذه والله هي الحكمة في أسمي معانيها، وفضلًا عن هذا وذاك مقالاته الدينية، التي تُناقش قضايا الساعة استئناسا برأي الشرع، والتي كانت تتصدر أعدادَ المجلة، ويتلقفها القارئ؛ ليستمتع بما يكتبه جمال.
جمال حاتم، هو ثمرةُ رعاية وتعهد الطيبين، إذ كان هو الابنَ "البكري" لشيخنا العلامة المُربي الفذِّ صفوت نور الدين، والذي كان يُلازمه كظله، فحصَّل منه علما وخُلقا، وسخاء يد، وإخلاص مشورة، وكرما حاتميًا.
جمال حاتم هو اسمٌ علي مسمي، فأظن أن اسمه الحقيقي جمال حاتم الطائي، ولكنْ حدثَ تصحيفٌ بسجلات المواليد، فأخطأت اسمَه، فما من مرة زرتُه فيها إلا وأبي إلا أن نُفطر أو نتغدي سويا حسب موعد الزيارة.
ظهيرة يوم ما، ذهبتُ إليه وقد ألهبت بطني شدةُ الجوع بعدما تعمدتُ ألا أتناولُ شيئا من طعام؛ يقينا بأنني سآكل معه شئتُ أو أبيت، حتي وإن كنتُ ممتلئا حتى البشم، فاستدعي ساعي مكتبه بعدما أخبرني بأننا سنأكل سويًا طعامًا، لم أألفه، ولن أطلبَ بعدها غيره، وقال له: "إلينا بطلبين من جميع إكسسوارات العِجل".
اندهشتُ متسائلًا: وهل للعجل إكسسوار، لكني سريعا، استحضرتُ قولَ طرفة بن العبد: ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلًا... ويأتِيْك بالأخبار من لمْ تُزودِ.
دقائق وأقبل الساعي، يتدللُ في تيه، ويميسُ في عجب، وبيده طلبا إكسسوار العجل، فاشرأب إليه عُنقي، وأسرعتُ أفض "بكارة" اللفة، وإذا بها حلويات اللحوم" من كِرشة وفِشة وطحال، وممبار، ومعهما قدحان من الشربة الدسمة والحريفة، احمرت باحتساء أحدهما أثناء التهام الطعام "أرنبةُ" أنفي، وأُقر صادقا أنه كانت للطعام لذةُ لا تُقاوم، وسحرٌ يفوق سحر ليالي الأُنس في "فينا".
مضتْ أيامٌ وإذا بي في قلب المطعم؛ لأحمل إلى أسرتي بعضَ "إكسسوارات العجل"، لكنها أبدا لم تكن بنفس اللذة، وبنفس المذاق، ويبدو أنها بركة جمال، أتمَّ الله شفاءه؛ ليعود ويُبهجَنا بطلباته الشَّهية.