صبري الموجي يكتب: ليس للكذبِ رجلان!
كانتْ لعمي حسن شجرةُ مِشمش كدوحةٍ غناء، تضرب بجذورها في باطن الأرض و"تسرحُ" بغصونها ذات اليمين، وذات الشِمال، شرقًا وغربًا، دون أن يعوق امتدادها في البراح الواسع عائق.
كان حقلُنا ملتصقًا بحقل عمي من الجهة الشرقية دون أن يفصل بينهما فاصل، وهو ما سمح لغُصنٍ من غصون تلك الشجرة الضخمة أن يمتد إلى حقلنا، ويُلقى به
ما ينوء بحمله من ثمار المشمش الطازجة ذات الطعم اللذيذ، فيسيل لها لُعابي، ويُغريني سقُوطها بأرضنا بجمعها وإضافتها لـ “شَروتي” لتكبرَ وأبيعها بثمن غالٍ، أُباهي به أخواتي وأبناء عمي ممن دأبوا دائما علي جمع ثمارٍ أكثر مني، وبيعها في “السويقة” بضِعف ما أبيع، والرجوع بجيوب ممتلئة، تزيد من حسرتي لأوبتي راجعًا بثمنٍ بخس قروشٍ معدودة لن تُمكنني بأي حال من توفير ثمن دخول مقهى العم “محمد العمدة” لمشاهدة أفلام “الأكشن”، وشراء زجاجة “كوكاكولا” أغيظُ بها أقراني من رواد المقهي، وربما غلبتني الشفقةُ، ومنحتُ أحدهم من زجاجتي رشفة أو رشفتين، على أن يُعاملني بالمثل عندما يشتري لنفسه زجاحة “حاجة ساقعة” بعد بيع شروته هو الآخر.
بمشاهدة ثمارِ مشمش عمي بأرضنا، كانت نفسي تتأرجحُ بين الرغبة والرهبة، فكلما هممتُ بجمع تلك الثمار ذات اللون الأصفر الذهبي؛ استشرافا لما سأُحققه من ربح لو أقدمتُ على تلك الخطوة الجريئة، أفزعني تهديدُ أبي، وصوتُه المنبعث في روعي بين الحين والحين: “إياك ونزول أرض أحد، احذر أن تأكلَ من حرام”.
ولأنّ “الزنَّ علي الودان أشدُ من السحر”، ولأنَّ للمال بريقًا يخطفُ بالأبصار، ذهبتْ نصيحةُ والدي أدراج الرياح، وضربتُ بها عرضَ الحائط، مُتذرعًا بأنني لم أنزل أرضَ أحد، بل الثمارُ هي التي تأتيني، ومن ثم لا أُعدُ في عرف الشرع سارقًا.
وبعد جُهدٍ تصببَ له جبيني عرقًا، جمعتُ “شروة” لم أحلم يومًا بجمعها، فارتفع صدري، وانتفخت أوداجي تيها، وأيقنت أن النصر حليفي لا محالة، وبأنني سأعودُ إلى البيت بجيب ممتلئ يُمكنني من شراء ما أشتهي، والولوج للمقهي لمشاهدة فيلم “بروسلي والتنين”، والذي بتُ ليالي طوالا أحلمُ بمشاهدته.
لم يُمهلني القدر أسرح بخيالي طويلا، إذ ألفيتُ والدي -طيب الله ثراه- قادمًا من بعيد، فقلتُ في نفسي إن الهجومَ خيرُ وسيلة للدفاع، وهو ما سيُخلصني من هذه الورطة، وانطلقتُ كلصٍ يُخفي اضطراب نفسه بدثار الثبات، ولكنَّ وجيبَ قلبي فضحني، فأمسكتُ سريعا بيد أبي؛ لألوذ بآخر بارقة أمل، وناشدته أن يغذَّ في السير، لتقرَّ عينُه بما كسبتْ يدا صغيره؛ ظنا أن هذه “الحيلة” ستنطلي عليه، وأنه لن يفطن لما ارتكبتُه من جٌرم.
انصاع لي أبي، وأسرع الخطي، وهو يمدح “شَطارتي”، مؤكدا أن ثمن شروتي سيكون لي وحدي، ولن يُعطي أخواتي منه شيئا.
وما إن وصل إلى مكان جمع الثمار، حتى احمر وجهه، واختفتْ ابتسامتُه، فامتقع وجهي، وارتعدت فرائصي بعدما جلس أبي القرفصاء، وأخذ يُقلب الثمارَ بين كفيه، فطمرت وجهي بين راحتي، فلهزني في جنبي لأنظر إليه، فأذعنتُ، فطالعني بنظرة حادة، ووجهٍ غاضب تكسوه حمرةٌ لفحتني حرارتُها، فأربدت سحنتي، لكني تجاسرتُ على نفسي الخائرة، وشرعتُ في الكذب؛ ظنا أن له رجلين، ولكنه بدا -أي الكذب- كسيحا أو مشلولا أمام أبي الفلاح “الأراري”، وسألني: ألم أنهكَ عن نزولِ أرض أحد؟
فأجبتُ: بلي، وحلفتُ أيمانا مُغلظة بأنني لم أجمع ثمار المشمش من غير أرضنا، وحتي “أُسبكَ” عليه الدور، عصرتُ عيناي عساهما أن تجودا عليَّ ببعض الدموع بُرهانا علي الصدق، ولكن هيهات، فلم تطفر منهما دمعة، فهرعتُ لحيلة أخري تنبني علي الحِجاج والجدل، طمعا في إقناعه، وإلا فسيكونُ العقابُ وخيما، والضرب مُبرحا بعصا من جريد النخيل “ستشلب” جسدي بالدم دون التفات لكوني “ديك البرابر”، وأنني ابنُه الوحيد والذكر الذي سيحملُ اسمه من بعده، فلمح فيَّ أبي “لؤم” الفلاحين وكذبهم، الذي يلجأون إليه هربا من ورطة أو مأزق؛ ظنا أنه كذبٌ أبيض ما دامت فيه النجاة، فشرع يُعلمُني الدرس، وقال انظر إلى ذلك الغصن، من أي شجرة يتفرع؟ فأجبت من شجرة عمي المزروعة بأرضه، فسأل وأين تسقطُ ثمارُه؟ فأجبت في أرضنا لأنه يتدلي بها.
فرد، وكانت عصاه أسبقَ إلى جسدي من صوته إلي أذني: إذن الثمارُ ليست ثمارنا، ثم أخذ ما جمعتُه بعَرق الجبين، وألقاه في أرض عمي، وبدلا من أن يمتلئ جيبي بالنقود تورم جسدي من شدة الضرب، ومن ساعتها أيقنتُ أنه ليس للكذب رجلان.