حامد عبد الرحمن الفقي.. وصومعةُ العزلة!
في سككِ القرية تلتقيه، فإذا به مُطرَق الرأس، مقوَس الظهر، مُتهدل الكتفين، فلا تشعر بطوله، رغم أنه كان -ذي قبل- طويلَ القامة، فارع العود، في وجهه جدةٌ وصرامة، فرضهما عليه تعهدُ وتربيةُ أبيه، أحد الشموع المضيئة بقريتنا، والذي اهتدى بسراج العلم في سكك ودروب قرية ترزح تحت نير الجهل والفقر، ويحيطُ بها الظلام من كل جانب، فاستطاع بمهارة (الربان) أن يصل بأولاده إلى بر الأمان دون أن يتركهم فريسة لأعمال السخرة في الحقول والغيطان، يغرقون في عرق الزرع والقلع، وجمع الدودة من المحصول!.
حامد عبد الرحمن الفقي، رجلٌ عرك السنين وعركته، واجه قسوةَ الأيام بصدر مُنفتح، فطوعها كما أراد دون أن ينكسر نصالُه، أو تنثني قناتُه، ورغم أنها -أي الأيام- أخذتْ من شبابه وقوته وفتوته، إلا أنه رُزق بأولاد وصلوا فيه ما انقطع، وشرعوا يشيدون من مجده ما اندثر.
هو أكبرُ أولاد المربي الكبير، والمعلم القدوة عبد الرحمن الفقي، أحد القلائل، الذين تدثروا بثوب العلم مُتحملا الجوعَ والفقر ليصير مُدرسا بالمرحلة الابتدائية، فكان هو وأقرانه -وقليلٌ ما هم- أشبه بشعيرات بيضاء، شرعت تتسلل إلي رأس شاب مُقبلٍ علي الكهولة.
طفق أبوه -طيب الله ثراه- يغرس فيه وفي إخوته ما حصله من علم، وما حفظه من كتاب الله، فتحلي بنوه بكل خلق كريم طوعا أو كرها؛ إذ دأب أبوهم معهم على الثواب دون أن يغفل العقاب، وهذان أساس التربية الصحيحة، مهما جادل المجادلون، وتفلسف (المتفذلكون) ممن اعتبروا العقابَ قسوة غير مُبررة.
اقتفى حامدُ أثر والده، فتخرج في مدرسة المُعلمين؛ ليتخرج مدرسا للمرحلة الابتدائية، ويتنقل من بلد إلي بلد، ومن مدرسة إلي مدرسة، ينشرُ بين تلميذه ما حصله من علم، ويبثُ فيهم ما اكتسبه من خلق، فجابت شهرتُه الآفاق، وترقي في سلمه الوظيفي إلى أن وصل إلى درجة مدير عام بالتربية والتعليم، وترك بصمة واضحة في كل مكان عمل فيه، سواء بين تلاميذه أو مرؤوسيه، الذين أجاد معهم فن الإدارة، فكان كثيرا ما يكون مرنا كالغصن، ونادرًا ما يكون صلبًا كالسيف، ينطبق عليه قول المُتنبي:
ووضعُ الندي في موضع السيف بالعلى... مُضرٌ كوضع السيف في موضع الندى.
لم تشغل الرجل حياتُه العملية عن العمل العام، والذي مارسه بحرفية منقطعة النظير، فأجهد جسده في خدمة الناس، يقول لسانُ حاله: ( لا نريد منكم جزاء ولا شُكورا)، فأنشأ مع مجموعة من شباب القرية المستنير آنذاك جمعية استهلاكية توفرُ السلع التموينية، وهو ما تطلب منه كثرة الأسفار في وقت كانت فيه وسائل المواصلات شحيحة، فكان ينتظرُ أتوبيس النقل العام سحابة يومه، وإن فاته اضطر إلى السير على قدمية ليبلغَ مقصده.
لم يبخل حامد الفقي على العمل العام يومًا، فأعطاه من جهده وماله، وحرمه من الجلوس مع أولاده الصغار، الذين رُزق بهم بعد شوق وطول انتظار، ورغما عن هذا فإن ابتسامة حزين وُفق في إزالة حزنه، وتلبية حاجة سائل مد إليه يديه، كانا أحبَّ إليه من بيته وأولاده.
التحامُ الرجل بالعمل العام، وسعيه لتلبية حاجة الناس، أكسباه حكمة وفنا في التعامل، فامتاز بطبيعة (إسفنجية) تمتص غضب الغضوب، وتُهدئ من روعه، ثم يشرع بعدها في إصدار حكمه الذي قلما حاد عن الجادة، وقد ساعده في ذلك صوتٌ هادئ، ولسانٌ عذب، وابتسامةٌ ثغر وبشرُ محيا.
الرجلُ لم يكن نبيًا بل هو بشر، يُخطئ ويصيب، ولن يجتمع الناسُ على رأي، حتى الأنبياء أنفسهم لم يسلموا من قيل ولا قال، وهكذا هو اعترك مع الحياة، فاتفق معه من اتفق، واختلف معه من اختلف، فآثر العزلة، ورنا بناظريه إلي ما عند ربه القائل: (وللآخرةُ خيرٌ لك من الأولي).
الأستاذ حامد عبد الرحمن.. حالةٌ تستحق الدراسة، ومواقفُ عديدة تستحق الشكر، وجهدٌ في العمل العام لا يُنكره إلا جاحد.
أؤكد أن الكتابة عنه كانت ضرورة، وإن قيل إنها انحياز لقرابتي له -ولو- فليقل من شاء ما شاء، ولو اعتبرناه انحيازًا، فإن هناك آخرين في عائلتي يستحقون الإشادة والثناء، وهذا آتٍ عما قريب.