حسام صلاح يكتب: أصول الفلسفة المعاصرة والإنسان
ممَّا لا شك فيه، أن الفلسفة الأوروبية الحديثة لم تكن وليدة يومٍ وليلة في القرن السابع عشر، ولكن سبقها بدايةً من القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر ما يمكن أن نعبر عنه بالمقدمات والتمهيدات لتلك الفلسفة الخطيرة التي شكلت وعي الإنسان الغربي ومفهومه.
ومع بدايات القرن الرابع عشر، كانت تلك المرحلة بمثابة (مرحلة الاضطرابات والقلق) التي تعد المقدمة الأولى والشرارة الأساسية التي تبعها تحول فكريٌّ رهيب وعميق لأبعد الحدود، فانعطفت الفلسفة في تلك الفترة من سطوة الكنيسة بعد علاقةٍ دامت أكثر من عشرة قرون، وأعلنت تحررها وتحرر الإنسان من كل قيدٍ وفكرٍ أرغمته عليه الكنيسة حينها.
إن عصر النهضة الأوربية كان مبشرًا بظهور فلسفةٍ جديدة تتميز بخصائص لم تكن في الفلسفات القديمة، وبشَّر أيضًا بانعطاف الإنسان حول الوجود عمومًا، والنظر إليه بنظرةٍ عميقة لمحاولة الوصول إلى ما يُرضي طموح الإنسانية حينها.
إن التحول والانقلاب الفكري الذي هزَّ عرش القارة الأوروبية لم يكن هو الآخر وليد الصدفة أو اليوم، إنما ترجع جذوره إلى الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة مع الفلاسفة والعلماء، والقضاء على أي معتقد يخالف معتقد الكنيسة حينها؛ سواء أكان محاولةً لفهم الكون، أو نظرة فلسفية في عقائد المسيحية التي بالطبع كانت تتعارض مع العقل الإنساني وتبقيه في حيرةٍ وقلقٍ دائمٍ.
فبعد ذلك التحول الكبير في نسق الفلسفة الأوروبية، أصبحت جديرةً أن يُطلق عليها لقب فلسفة، فهى يمكن أن توصف بأنها مرحلة عقلية متمردة على كل ما هو قديم ومحاولة إيجاد شيءٍ جديدٍ.
وممَّا لا شك فيه لدى قارئ الفلسفة، أن العالم يعيش الآن تحت سطوة الفلسفة الحديثة سواءً أدرك ذلك أو لم يدرك، لأنها تعد أيضًا شرارةً للفلسفة المعاصرة التي أسرت العالم كله في قبضتها وسيطرت على كل القيم ووظفتها لخدمة تلك الفلسفة.
لذلك فإن الحقبة المادية والتفلسف الوضعي الذي يعاني من خلاله الإنسان الآن من خلال قيمه الرذيلة مثل (المنفعة البرجماتية) و(الرأسمالية) أو على الجانب الآخر (الشيوعية) هو في الأصل نتاج لما بعد الفلسفة الحديثة.
لذلك من وجهة نظري مَن أراد أن يعرف حقيقة الصراع الآن لا بد أن يقف على تلك المرحلة الخطيرة من مراحل الفكر الإنساني، ويحاول أن ينظر إليها نظرةً موضوعيةً ومتجردة، ويقف على تفاصيلها وأدواتها وخصائصها الفكرية التي أدَّت بعد ذلك إلى نشأة الفلسفة المعاصرة بوصفها حقبةً سوداء في تاريخ الإنسانية.
من أخطر ما قامت به فلسفة العصور الوسطى خصوصًا في مرحلة (الفلسفة المدرسية المسيحية) هو أنها حاولت الجمع بين الدين والفسلفة بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة حتى صار اللاهوت فلسفةً والفلسفة لاهوتًا.
وصارت الفلسفة حينها من عمل الجماعات لا الأفراد في تحوُّلٍ خطير للمنهج الفلسفي عمومًا، وكانت تُدرس على يد الرهبان في الكنائس، وكانت الكنيسة هى المرجع الأول للتفلسف في تلك الحقبة.
فكان العقل في تلك الفترة مجرد تابعٍ للكنيسة من ناحية، وتابع لأرسطو من ناحية أخرى؛ إذ سيطرت افكار أرسطو على المجتمع حينها وبلغت ذروتها في آخر قرنين من تلك الفترة.
وكانت مهمة تلك الفترة إيجاد أسس عقلية للتعاليم الدينية أو محاولة تعقُّل للمسيحية ومن ثم نشأ القول «أؤمن حتى أتعقل».
لذلك كانت نشأة الفلسفة الحديثة ردة فعل لما فعلته الكنيسة بالعقول حينها، ردة فعل عنيفة جدًّا؛ أدت إلى الثقة بالعقل إلى أبعد الحدود، وإنكار كل شيء وانعطاف الفلسفة الحديثة من خلال تياراتها المختلفة إلى البحث في الإنسان ذاته وماهيته من خلال التيار (الماركسي) والتيار (الوجودي).
لذلك يمكن القول إن النزعة المادية الإلحادية في الفلسفة الحديثة والمعاصرة التي تحكم العالم الآن جاءت ردة فعل لما فعلته الكنيسة في الإنسان الأوروبي على مدار أربعة عشر قرنًا من الزمان، لذلك كانت ردة الفعل عنيفة جدًا أدت إلى تلك النتائج الخطيرة التي ما زال العالم بأسره يعيش ما جناه العقل البشري في محاولة الوصول إلى مراده.