دروس لـ "مدبولي" عند الاختيار.. كواليس تشكيل الحكومة في عهد النبي والخلفاء
رسخ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أسس ومبادئ الإدارة وفن قيادة الآخرين من خلال مواقفه مع أصحابه، فكل موقف كان يرسخ مبدأً جديدًا في كيفية إنجاز الأعمال بنجاح وتميز دون إهدار حقوق الغير، ودون التقليل من المهام الموكولة للآخرين، بل يصبح تقسيم العمل والتعاون والاستماع للآخرين من الصفات التي ينبغي أن نتحلى بها في تعاملنا نحن في أعمالنا.
وإشراك ذوي الخبرة والكفاءة في اتخاذ القرار من صفات القائد الحكيم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يشاور صحابته امتثالًا لقول الرب عز وجل:” وشاورهم في الأمر فبذلك يشعر الجميع بالمشاركة والمسؤولية. وقد ظهر ذلك في عدة وقائع مثل غزوة الأحزاب، فعندما أشار عليه الصحابي الجليل سلمان الفارسي بحفر الخندق، نفذ ما أشار إليه.
ووضع النظام الإداري في عهد عمر بن الخطاب مقال يوضح التقسيم الإداري الذي أقره عمر للدولة الإسلامية، والهيكل التنظيمي للموظفين في عهده وطريقة تعامل عمر مع النظام الإداري في عهد عمر بن الخطاب
وخلال التقرير التالى ننشر أهم المعلومات عن توزيع المهام وفق المهارات في عصر النبوة والصحابة.
ويوضح الدكتور مصطفي شلبي، الباحث في الشئون الإسلامية، أن النبي حرص على توزع الأدوار على الأفراد وَفْق ما يمتلك كل واحد منهم من تخصص ومهارات يستطيع أن ينجز من خلالها المهامَّ الموكلة إليه على الوجه المطلوب،يقول طَرَفةُ بن العبد في هذا المجال بدليل أنه رفض تولي عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما مهمة الأذان، بل أعطاها بلال بن رباح رضي الله عنه؛ لأنه الأجدر بها، ويمتلك أدواتها؛ فعن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، قال: "وددتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني النداء"، قيل: ولم ذاك؟ قال: "إنهم أطولُ الناس أعناقًا يوم القيامة"، ولم يقتصر الأمر على أصحابه صلى الله عليه وسلم، وإنما حتى في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة واحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دليل محترف، فقد اختار دليلًا ماهرًا على الرغم من أن الدليل الذي كان يرافق النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه لم يكن مسلما
وتابع الدكتور شلبي، أن النبي أعطي النموذج في الشورى في الإدارة،فكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يستشير بعض أصحابه في كثير من الأمور المتعلقة بشؤون الآخرين وشؤون الدولة، ولعل أبرزهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ حيث كانا مستشارَيِ النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا كانت وظيفة المستشار الخاص من نصيبهما؛ كما أن له صلى الله عليه وسلم مستشارين آخرين؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفر، وعلي، وحسن، وحسين، وأبو بكر، وعمر، والمقداد، وحذيفة، وسَلْمان، وعمار، وبلال).
أما عن وظيفة الأمين العام للحكم ؛ حيث يضطلع المكلف بهذه الوظيفة بمهام عدة على درجة من الأهمية، وقد أوكل النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذه المهمة للصحابي أبي عبيدةَ عامرِ بن الجراح رضي الله عنه، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا - أيتها الأمة - أبو عبيدةَ بن الجراح).
أما وظيفة وزير الداخلية، وقد أُسندت مهمة الحماية للأمن الداخلي، سواء فيما يتعلق بأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيًا، أو بالأمن الداخلي للدولة الإسلامية، إلى مَن يمتلك المهارة اللازمة لها، وقد كلف الصحابي قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه بمهمة رئاسة الشرطة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشُّرَطِ من الأمير
أما وظيفية أمانة سر المراسلات: حيث كانت من اختصاص الصحابي معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي رضي الله عنه، فيُحدثُ إياسُ بن الحارث بن المعيقيب، فقد كان معيقيب رضي الله عنه يختم الكتب والمراسلات الصادرة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الآخرين، سواءٌ كانوا ملوكًا أم غيرهم.
أما وظيفية المتحدث الرسمي للدولة أو الناطق الرسمي: وكان خطيب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الصحابي ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، يتكلم نيابة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فحين جاء مسيلِمة الكذاب إلى المدينة المنورة، "فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس
أما وظيفة الترجمة،فقد وكلت للصحابي زيد بن ثابت رضي الله عنه،، لقد أبدى زيد بن ثابت رضي الله عنه مهارة عالية وأداءً متميزا، وسرعة في الإنجاز حين تعلَّم اليهودية في نصف شهر، والسريانية في (17) يومًا، والفارسية في (18) يومًا.
اما وظيفة المفتي أو مفتي الدولة أو ما يعرف في عهد النبي وظيفة أمور الحلال والحرام: أسنَد رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة الإجابة عن الحلال والحرام للصحابي معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعلم أمتي بالحلال والحرام: معاذُ بن جبل))
وبخصوص وظيفة وزير العدل أو القضاء: فقد كان الصحابي علي بن أبي طالب رضي الله عنه متوليَ شؤون القضاء؛ فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أقضانا عليٌّ"، ويقصد علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أما وظيفة وزارة الأوقاف أو إدارة شؤون المساجد فقد تولها بلال بن رباح رضي الله عنه، وهو أولُ مَن أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن أم مكتوم القرشي العامري الأعمى رضي الله عنه، وبقُبَاء سعد القرظ رضي الله عنه مولى عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وبمكة أبو محذورة رضي الله عنه، واسمه أوس بن مغيرة الجمحي
وبخصوص وظيفة وزير الخارجية،فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه المتميزين والملائمين لهذه المهمة، وهو اول من قام بتعين سفراء بالخارج بالمفهوم الحالي ومنهم:" دِحْيةَ بن خليفة الكلبي رضي الله عنه وقد أرسله النبي إلى قيصر، وهو هرقل.كما أرسل عبدالله بن حذافة السهمي رضي الله عنه إلى كسرى.كما أرسل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس صاحب الإسكندرية.وأرسل عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي ملك الحبشة، و أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، داعيًا إلى الإسلام، فأسلم جميعُ ملوكهم؛ كذي الكلاع، وذي ظليم، وذي زرود، وذي مران، وغيرهم،أرسل العلاءَ بن الحضرميَّ رضي الله عنه إلى المنذرِ بن ساوى العبديِّ ملِكِ البحرينِ.وأرسل سليط بن عمرو رضي الله عنه إلى هوذة بن علي، الملِك على اليمامة.
أما وظيفة رئيس جهاز المخابرات، فكان من نصيب الزبير بن العوام رضي الله عنه في الحصول على المعلومات الاستخباراتية من قلب العدو، قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (مَن يأتينا بخبر القوم؟!)، فقال الزبير: أنا، ثم قال: ((مَن يأتينا بخبر القوم؟!)، فقال الزبير: أنا، ثم قال: (مَن يأتينا بخبر القوم؟!)، فقال الزبير: أنا، ثم قال: (إن لكل نبي حواريًّا، وإن حواريَّ الزبيرُ).
من جانبة أوضح الدكتور سعد عبد المنعم أستاذ التاريخ الإسلامي، أن الصحابة كان لهم أسلوب خاص في اختيار المناصب العليا للدولة،فقد كان يتم عرض المهمة المطلوبة على الأفراد، وانتظار من يرشح نفسه، وفي حالة عدم تقدم أحد لها، يتم الاختيار، وفي مثل هذه الحالات تكون المكافأة مجزية، وهذا النوع يستخدم في المهمات الخاصة والخطرة جدا، التي تحتاج إلى انضباط عالٍ، وحرص عليه الصلاة والسلام على توزيع المهام والمسؤوليات على رجاله وصحابته كلًا حسب كفاءاته ومؤهلاته، فوضع كل منهم في المكان المناسب، فعمر وأبو بكر وزرائه، وعلي بن أبي طالب للقضاء، وخالد بن الوليد للجيوش أو وزير للدفاع، وأبو هريرة على أموال الصدقات أو وزير الاقتصاد والمالية وهكذا كل منهم تولى منصبًا على حسب قدراته ومؤهلاته ومواهبه، ولا يجامل في ذلك أحد، فعندما طلب إليه أبي ذر الغفاري الإمارة وهو من خيرة الصحابة، قال له” يا أبا ذرٍّ! إنك ضعيفٌ. وإنها أمانة وإنها يومَ القيامةِ، خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
وأوضح الدكتور سعد عبد المنعم، أنه في عهد عمر بن الخطاب، أتخذ إجراءات صامة في تعين القيادات بالدولة؛ فكان يتم اختيار الموظَّفين ضمن الإطار الديني، بالإضافة إلى الصِّفات الحميدة مثل: الصدق والأمانة والكفاءة واليقظة، وكان عمر رضي الله عنه على معرفةٍ بكنه الرجال الذين تتوفَّر فيهم شروط التعيين، وكان هناك أربعة رجالٍ عُرفوا بدهاة العرب وهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن سمية رضي الله عنهم، وقد عهد عمر رضي الله عنه إلى الثلاثة الأوائل بأكبر مناصب الدولة، وعيَّن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه كاتبًا وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد استحسن كتابته.
وعندما عقد عمر رضي الله عنه مجلس الشورى للنظر في أمر نهاوند طلب الرأي من الحاضرين في اختيار الرجل الذي يُرسل ليقود المعركة، قال الحاضرون: "إنَّ المعرفة التي لديك لا تتوفَّر لأحدٍ فينا، وأنت قدَّرت مؤهلاتنا وقدراتنا، ولم يستطع أحدٌ أن يُقدِّرها"، عندئذ سمَّى عمرُ رضي الله عنه النعمانَ بن مقرِّن، واعترف الجميع بحسن الاختيار.
عمل عمر رضي الله عنه بمبدأ الإنابة؛ إنابة رجالٍ لبعض الولاة بحضورهم، وهذه ظاهرةٌ مهمَّةٌ في ميدان السياسة والإدارة؛ فقد عيَّن السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي نائبًا لعبد الله بن عتبة على سوق المدينة وكان عبد الله بن عبد الله بن عتبان نائبًا لسعد بن أبي وقاص على الكوفة.
كما أن من صفات تعين القيادات العليا في الدولة في عهد عمر بن الخطاب، كانت الرحمة والرأفة بالناس؛ فكان عمر رضي الله عنه لا يُولِّي الرجل الذي يُخشى من شدَّته على الرعية لفقدان الرحمة، وأن لا يكون المرشح حريصًا على الولاية، فقد أُثر عن عمر رضي الله عنه أنَّه أراد تولية رجلٍ على ولاية فجاء الرجل يطلبها، فتوقَّف عمر رضي الله عنه عن ذلك ولم يُولِّه؛ مقتديًا بذلك بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا يُولِّي أمرًا من طلبه ولو كان قادرًا؛ فطالب الولاية لا يًولي.
كما حرص عمر رضي الله عنه على اختيار ولاته، فإذا حدث أن اختار أحد الأشخاص يُعطيه عهد التعيين الذي يتمضن شروطا، وأهمَّها تطبيق حكم الله، وإحلال العدل، ونشر الأمن والطمأنينة بين الناس.
نتيجة لاتساع رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه وازدياد عدد ولاياتها، أضحى من الصعب الإحاطة بكلِّ ما يجري في كلِّ ولاية، ولمـَّا كان عمر حريصًا على أن يقف على دقائق الأمور في تصرُّف ولاته وما كان يجري في كلِّ ولاية، اختار رجلًا من خيرة رجاله تقوى وقوَّةً وأمانةً وسنًّا وتجربةً، هو محمد بن مسلمة الأنصاري ليكون مراقبه الخاص على العمال وأعمالهم والنظر في الشكاوى المرفوعة لهم، ويذكر أبو يوسف: "فدعا -أي عمر- محمَّد بن مسلمة وكان رسوله إلى العمَّال، فبعثه وقال: إئتيني به؛ أي بالوالي الذي خالف الشروط وهو عياض بن غنم، على الحال الذي تجده عليها. قال: فأتاه فوجد على بابه حاجبًا، فإذا عليه قميصٌ رقيق، قال: أجب أمير المؤمنين، قال: دعني أطرح عليَّ قبائي. قال: لا إلَّا على حالك هذه. فقدم به عليه؛ أي على عمر في المدينة.