علي الهواري يكتب: في ذكرى الهجرة.. التسامح في بلادنا جُبن
من أهم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة، التي تحل علينا الأن، هي فضيلة التسامح.
والتسامح لا يكون بين المسلمين فقط، ولكن بين المسلمين وغيرهم من بني البشر باختلاف أديانهم وعقائدهم وتوجهاتهم الفكرية والأيديولوجية.
وكما تقول دار الإفتاء المصرية.. لم يقتصر تسامح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على أهل الكتاب، بل تعداهم إلى المشركين أيضًا، مع أنهم كثيرًا ما تآمروا عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله؛ حتى أخرجوه من بلده مكة المكرمة وهي أحبُّ بلاد الله إليه، ثم حاربوه بعدَ ذلك في بدرٍ وأحدٍ والخندقِ، وقتلوا آل بيته وأصحابه رضي الله عنهم، وصدُّوه عن البيت الحرام، ومع ذلك كلِّه فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يعاملهم بالحسنى، ويأبى الدعاء عليهم، وقابلهم في مكة بالعفو العام ليعلم الجميع بأن التسامح مبدأ إسلامي لا يتغير.
وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة عندما عاد قويا ظافرا منتصرا، فقال: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وأبن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: "أذهبوا فأنتم الطلقاء".
تأتي هذه الذكرى النبوية العطرة كل عام وقد أصبحت كلمة التسامح في مجتمعنا «المتدين بطبعه» مرادفا للجبن والخوف والضعف، ليس هذا فحسب، بل أن الكارثة الكبرى هي أن اللجوء للقضاء للحصول على الحقوق أصبح يعني بالنسبة للمجتمع المتدين بطبعه، الجبن والخوف والضعف، بل صار الحصول على الحقوق بالقوة واليد هو قمة الرجولة والبطولة.
وعندما تنادي بالعفو والتسامح يخرج عليك بعض الفلاسفة ويقولون: التسامح والعفو لا يكون إلا عند المقدرة.. دون أن يحددوا لنا معنى المقدرة ومعيار قياسها.
فهل يوجد حديث أو آية قرأنية تحدد لنا معنى المقدرة وطرق قياسها؟
هل معيار المقدرة هو المال، وبالتالي الغني الذي يتسامح لا يتهم بالجبن؟
هل معيار المقدرة هي البلطجة والفتونة، وبالتالي البلطجي والفتوة عندما يتسامح لا يتهم بالجبن؟
هل الفقير الذي يتسامح مع الناس غير قادر، وبالتالي عندما يتسامح يتهم بالجبن؟.
إذا كان معيار المقدرة هو المال والثراء فأكثر الذين لا يتسامحون في بلادنا هم من الأغنياء والأثرياء.
الأغنياء لا يتسامحون حتى لا يتهمون بعدم المقدرة وبالتالي يتهمون بالضعف والجبن.
وإذا كان معيار المقدرة هي البلطجة والفتونة فالبلطجية والفتوات عندنا لا يتسامحون.
البلطجية والفتوات لا يتسامحون حتى لا يتهمون بعدم المقدرة وبالتالي يتهمون بالضعف والجبن.
الكثير من بلادنا يرفضون التسامح خوفا من اتهامهم بالجبن والخوف والضعف.
البعض يفهم التسامح على أنه تنازل عن الحقوق، وهذا غير حقيقي، فالتسامح يكون بعد أخذ الحقوق، ولكن السؤال هو: كيف يتم أخذ الحقوق؟.
هل يتم أخذ الحقوق باليد والقوة والبلطجة، أم بالعرف والشرع والقانون؟
الإجابة في منتهى البساطة.. تقول دار الإفتاء المصرية أن الأصل في أخذ الحقوق هو اللجوء للقضاء.. والقضاء هو الجهة الوحيدة في الدولة المنوط بها حل المنازعات بين الناس. أما أخذ الحق باليد أو القوة فسيحول المجتمع إلى غابة وفوضى عارمة، مجتمع يسيطر عليه الخوف والكراهية وحب الانتقام وعدم الأمن.
لذا على المتعلمين في بلادنا أن يعلموا الناس، أن أخذ الحق بالقانون هو قمة الرجولة والبطولة، وأن أخذ الحق باليد والقوة هو قمة الضعف والجبن.
وعلى الناس أن يرضوا بحكم القضاء مهما كان، لأنه هو الوسيلة والضمانة الوحيدة للحصول على الحقوق وصون النفس والمال، والحفاظ على أمن واستقرار المجتمع.
للتسامح فوائد أخرى كثيرة
لا تقتصر فوائد التسامح على الجانب الأخروي، ولكن للتسامح فوائد دنيوية كثيرة جدا.
تذكر خبيرة العلاقات الأسرية الدكتورة إيمان عبد الله عدة فوائد للتسامح إذا قام الشخص بمعرفتها قد يستطيع مسامحة الطرف الأخر حتى تستمر الحياة في سلام وأمان.
وأضافت، أن التسامح وتطبيقه كمبدأ في الحياة يزيد من الشعور بالطاقة الإيجابية والراحة النفسية بأن الشخص ليس لديه ما يغضبه أو يسبب له ضيق.
وتابعت خبيرة العلاقات الأسرية أن عدم التعصب للرأي يقضي على الكراهية، فتقبل الطرف الأخر حتى وأن كان مخطئ يجعل هناك حدًا للكراهية، خاصة إذا كانت إرائه لا تزيد أو تقلل من الشخص.
وقالت: الرأفة من أسمى الصفات التي يتمتع بها الشخص المتسامح، كما أوضحت خبيرة العلاقات الأسرية أن التسامح يكسب ويضاعف الشعور بالرأفة ومنها الوصول للسلام النفسي وحب الخير للغير مهما حدث بينكما، خاصة إذا كان الخلاف يأتي من بعض المقربين.
وأردفت: قدرة الشخص المتسامح تتضاعف عن الشخص الذي يكن الكراهية ويزيد الخصام بينه وبين من حوله، لذا فإن التسامح يعمل على تنمية العقل وجعله يدرس القرارات بشكل أقل انفعالًا مما ينتج في النهاية تفكير نقدي أي تقديره لكل ما هو إيجابي في الحياة وأنه ليس بالضرورة أن الشخص يصبح أسيرًا للخلافات والمعارك التي بلا جدوى.
واختتمت خبيرة العلاقات الأسرية أن التسامح يعلو من شأن الشخص، ويجعله في القمة دائمًا، كما يزيد من محبة الكثيرون له، ويعلوا من احترامهم له
وخلال مقال نُشر على موقع "سايكولوجي توداي" (psychologytoday)، أكدت "أبيجيل برينر"، طبيبة نفسية في عيادة خاصة، أن للتسامح فوائد عديدة، منها: أنه يُخرجك من وضع الضحية، فالتسامح يسمح لك بكسر الروابط التي تربطك سلبا بشخص آخر. يمكنك أن تسامح دون أن تنسى، ما حدث لك حدث، ليس هناك من ينكر ذلك. ويجب ألا تحاول التظاهر بأن كل شيء قد عاد إلى طبيعته، قد تسامح شخصا ما وتختار ألا تراه مرة أخرى أبدا.
عندما لا تعدُّ ضحية، فهذا يعني أن المشاعر السلبية لم تعد تتحكم فيك، يمكنك ساعتها التركيز على أن تصبح أقوى، وأن تعيد بناء شخصيتك بحيث لا تسمح لنفسك أبدا بأن تقع في موقف يمكن أن يؤذيك أو يؤلمك فيه أحد.
التسامح يحافظ على الصحة العقلية والجسدية
ظهر كذلك أن التسامح مرتبط بنتائج الصحة العقلية الإيجابية، مثل تقليل القلق والاكتئاب والاضطرابات النفسية الرئيسية، كما أنه مرتبط بتحسين الصحة الجسدية وانخفاض معدلات الوفيات، فمثلا وجد تحليل تلوي أن الغضب والعداء مرتبطان بزيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب، ووجدت إحدى الدراسات أن التسامح يرتبط بشكل إيجابي مع عدة مقاييس للصحة، مثل نوعية النوم، ومقدار الشعور بالتعب.
خلال كتابهما "التسامح والصحة"، قام كل من "توسان ورثينجتون" و"ديفيد. ويليامز" بتفصيل الفوائد الجسدية والنفسية للتسامح. يقترح "توسان وورثينجتون" أن تخفيف التوتر ربما يكون هو العامل الرئيسي الذي يربط بين التسامح وتحقيق الرفاهية، فيقول: "نحن نعلم أن الإجهاد المزمن مضر بصحتنا، المسامحة تسمح لك بالتخلي عن الضغوطات الشخصية المزمنة التي تسبب عبئا لا داعي له".
وقد وجد توسان وزملاؤه، في دراسة تستكشف العلاقة بين التوتر والرفاهية النفسية والتسامح، أن الأشخاص الذين لديهم مستويات أعلى من الإجهاد المتراكم طوال حياتهم أظهروا نتائج أسوأ على مستوى الصحة العقلية
وخلال دراسة أخرى، وجد توسان أنه عندما ارتفع التسامح، انخفضت مستويات التوتر، وقد أدى انخفاض التوتر بدوره إلى انخفاض أعراض مشكلات الصحة العقلية والجسدية. يمكن أن يتسبب التوتر والغضب غير الصحي في حدوث بعض المشكلات الصحية، مثل: الضغط العصبي، والشد العضلي، والمشكلات القلبية، وانخفاض وظيفة المناعة.
ويقول بوب إنرايت، عالم نفس في جامعة ويسكونسن-ماديسون، الذي كان رائدا في دراسة التسامح منذ ثلاثة عقود، إن المسامحة الحقيقية تذهب إلى أبعد من التخلي عن المشاعر السلبية، حيث تقدّم شيئا إيجابيا، هو الشعور بالتعاطف والرحمة والتفاهم تجاه الشخص الذي آذاك. هذا العنصر يجعل التسامح فضيلة عظيمة.
يضيف: عندما تنجح في فعل ذلك، فإنك تتجنب استمرار الشعور بالغضب والمرارة والكراهية، وهي مشاعر مُنهكة تُثقل جسدك وأفكارك. حين لا تُحرر هذه المشاعر وتتخلى عنها، فإنها تظل حبيسة بداخلك، ويمكنها أن تُسبب أمراضا جسدية مثل آلام المعدة وارتفاع ضغط الدم، ويمكن أن تزيد من سوء بعض الاضطرابات العقلية مثل الاكتئاب والقلق.
التسامح لا يعكس الجبن أو الضعف
من المهم هنا أن نشير إلى أن التسامح لا يعكس الجبن أو الضعف. هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة التي نسجها البعض حول المقصود بالتسامح، فمثلا يرى البعض أن التسامح يعني أن تكون ضعيفا، أو ألا تطالب بالعدالة، أو أن تبرر السلوك البغيض، أو تترك نفسك للمعاملة السيئة دون أن تتخذ أي موقف لوقف هذه المعاملة أو وضع الحدود. هذه التصورات عن التسامح خاطئة تماما، فالتسامح يعني التوقف عن الشعور بالاستياء تجاه شخص ما أو شيء ما، وهو يدل على القوة، لأن الشخص الذي يستطيع القيام به هو شخص يعرف كيفية السيطرة على مشاعره ويستعيد إحساسه بالذات.
المسامحة تضعك في مركز قوة، وهي لا تُبرر السلوك السيئ أو المؤذي أو الأناني. كذلك فالمسامحة لا تعني المصالحة مع الجاني أو المُخطئ، إذ يرى "ورثينجتون" أن التسامح لا يتطلب المصالحة مع المعتدي وإعفاءه من تبعات فعله، ربما كل المطلوب هنا أن تصل الضحية إلى درجة من التعاطف والتفاهم تجاه الجاني. يقول ورثينجتون: "سواء أُسامِح أو لا أُسامِح، فلن يؤثر هذا على سير العدالة وتحقيقها، الغفران يحدث داخل جلدي".
لا يعني التسامح أيضا أن الشخص الآخر سيغير من تصرفاته أو سلوكه أو كلماته، هو فقط سينهي قدرة الطرف الآخر على السيطرة على حياتك، ويُمكنك من تعيين حدودا واضحة عند التعامل معه، حال استدعت الحاجة ذلك.
قصة جميلة عن التسامح.. عفا عن قاتل أمه
كان إيفريت ورثينجتون، أستاذ علم النفس في جامعة فرجينيا كومنولث، يدرس التسامح لما يقرب من عقد من الزمان عندما واجه أسوأ أزمة ممكنة لوضع اهتمامه بالتسامح قيد الاختبار، لقد قُتلت والدته في حادث سطو منزلي. يقول ورثينجتون إنه استغرق سنوات طويلة ليسامح هذا القاتل، وإنه وجد أن هذه المسامحة هي أمر تُهديه لنفسك في المقام الأول. عندما تسامح، فإنك تتخلى عن مشاعر المرارة والاستياء والرغبة في الانتقام.
في النهاية: الغريب والكارثة الكبرى أن الكثير في بلادنا من الذين يتشدقون بحبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنهم يتخذونه قدوة لهم، ويحافظون على تأدية الصلوات في أوقاتها، ويتباهون بحفظ القرأن من الجلدة للجلدة، وينصحون الناس بالتسامح وصلة الرحم، لا يتسامحون ولا يصلون أرحامهم، بل أنهم يفجرون في الخصومة ويورثون أولادهم الحقد والكراهية وقطع صلة الرحم، وهذا يكشف مدى الانفصام في الشخصة التي أصابت المسلمين الأن في بلادنا، والذي جعل البعض يستدعي مقولة الإمام محمد عبده «ذهبت للغرب فوجدت إسلامًا ولم أجد مسلمين ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكن لم أجد إسلامًا».
استقيموا يرحمكم الله.