رئيس التحرير
خالد مهران

من "أبيك" إلى "العشرين".. دبلوماسية الصين تبحر" استقرارا" في  بحر متلاطم  

الرئيس الصيني شي
الرئيس الصيني شي جين بينغ

جذبت تفاعلات الرئيس الصيني شي جين بينغ مؤخرا في أمريكا اللاتينية اهتماما عالميا كبيرا. وأظهرت نشاطاته على هامش قمتي "أبيك و" مجموعة العشرين" الماضيتين، وكذا سلسلة لقاءاته مع قادة العديد من الدول، مجددا أن دبلوماسية الصين، القائمة على التعددية والانفتاح والتعاون، تحظى بجاذبية متزايدة كمرساة استقرار وسط بيئة صعبة.

واختتم الرئيس الصيني يوم الخميس الماضي جولة مكثفة ونادرة في أمريكا اللاتينية، حيث قام بزيارة دولة إلى كل من بيرو والبرازيل حضر خلالهما على الترتيب الاجتماع الـ31 للقادة الاقتصاديين لمنتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا-الباسيفيك (أبيك) في ليما، والقمة الـ19 لمجموعة الـ20 في ريو دي جانيرو.

وخلال هذه الجولة التي استمرت 11 يوما عقد الرئيس شي اجتماعات ثنائية مع قادة العديد من الدول، من قوى غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وأسواق ناشئة ودول نامية مثل البرازيل وبيرو وبوليفيا والأرجنتين وتشيلي، إلى دول مجاورة مثل اليابان وكوريا الجنوبية. ويلاحظ أن من بين هؤلاء الرؤساء، هناك "جيران وأصدقاء تقليديون"، و"منافسون" حسب تصنيف أنفسهم، ودول ناشئة ونامية تجمعها "المنافسة والتعاون" في سلسلة الصناعة.

وخلال الجولة، حضر الرئيس شي نحو 40 حدثا على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف وتوصل إلى أكثر من 60 وثيقة تعاون. وأكد على التعددية والتنمية والتشاور والحوار في حل المشكلات والنزاعات وشرح مفهوم الصين للحوكمة واظهر صورتها كدولة كدولة كبرى مسؤولة.  

وجاء جدول الأعمال الكثيف هذا على خلفية مشهد دولي عاصف وزيادة في عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي وسط نزاعات تجارية وصراعات محتدمة في أوكرانيا والشرق الأوسط. وأبرز مجددا حيوية الدبلوماسية الصينية من عدة أوجه.

 

أولا، روح "العمل معا من أجل العالم"

وينبع نهج الصين هذا من فهمها الجيد لمسار تنميتها الخاص وعلاقتها بالعالم. فبينما تكرس الحكومة الصينية نفسها للسعي وراء رفاه الشعب الصيني وإعادة الإحياء الوطني، ترى أنها لا تعيش في عزلة بل في مجتمع واسع لديها مسؤولية كبيرة تجاهه، ولذلك لا تكف في نفس الوقت عن مواصلة جهودها لتعزيز التقدم البشري والتناغم العالمي.

وفي سبيل هذه الغاية، لم تفقتر تصريحات الرئيس شي من المحتوي "الإقليمي" و"العالمي" في أحاديثه الثنائية وخطاباته الجماعية طوال الجولة. في البرازيل، على سبيل المثال، تحدث عن مجتمع صيني-برازيلي ذي مستقبل مشترك "من أجل عالم أكثر عدلا وكوكب أكثر استدامة". ودعا خلال لقائه مع الرئيس البرازيليلويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى "عالم عادل قائم على التنمية المشتركة ونظام حوكمة عالمي نزيه ومنصف".

ونفس الشئ في بيرو عندما دعا إلى الارتقاء بالشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين إلى مستوى جديد. وأوضح شي أن "تعزيز التضامن والتعاون والحفاظ على الاستقرار والازدهار الإقليميين يخدمان المصالح المشتركة لعائلة منطقة آسيا-الباسيفيك ودول الجنوب العالمي".

وتقول نادية حلمي، أستاذة العلوم السياسية بجامعة بني سويف في مصر "تحرص الصين على إجراء التعاون الثنائي والإقليمي مع هذه الدول والعمل معها لخلق بيئة إقليمية يسود فيها السلام والاستقرار والمساواة والثقة المتبادلة وروح التعاون والمنفعة المتبادلة". وأضافت في سياق تأكيدها على أساس دبلوماسي صيني أن" الصين تربط مصالح الشعب الصيني بالمصالح المشتركة لشعوب العالم، وتسعى إلى توسيع المصالح المشتركة مع جميع الأطراف من أجل البشرية جمعاء".

ثانيا، التقدم المشترك ومستقبل أفضل

في نقطة بارزة خلال زيارته لبيرو، افتتح الرئيس شي مع رئيسة بيرو دينا بولوارتي ميناء تشانكاي وهو أحد المشاريع الرائدة ضمن مبادرة الحزام والطريق. ويعد أول ميناء ذكي وأخضر في أمريكا الجنوبية، ويتوقع أن يعزز الميناء كفاءة التجارة بين آسيا وأمريكا الجنوبية من خلال تقليص وقت الشحن إلى وخفض تكاليف الخدمات اللوجستية.

وفي ضوء التعاون المثمر والمتطور بين الصين وامريكا اللاتينية، تبرز الطبيعة التكاملية لاقتصادات كلا الجانبين مع حجم تجارة متوقع أن يتجاوز بنهاية العام إجمالي 500 مليار دولار. وقد أعرب شي والعديد من القادة في أمريكا اللاتينية عن أملهم في مواءمة مبادرة الحزام والطريق الصينية مع استراتيجيات التنمية الوطنية.

ويرى الخبراء أن هذه الرغبة المشتركة لم تأت من فراغ. والسبب لا يرجع إلى المبادئء التي تنتهجها الصين في تعاملها مع الآخرين من حيث الاحترام المتبادل، والتعاون المربح، والتعامل على قدم المساواة فحسب، وإنما أيضا إلى تنامي الثقة في المبادرات الصينية التي كان لها  صدى واسع دوليا على مفاهيم التنمية، ولا سيما مبادرة الحزام والطريق ومبادرة التنمية العالمية.

وحققت المبادرة نجاحات كبيرة في البنية التحتية والاقتصاد والتجارة والتمويل والثقافة وعززت التعاون العملي وأصبحت محركا هاما لمصالح أمريكا اللاتينية والعالم بأسره. وحتى الآن وقعت وقعت أكثر من 150 دولة وأكثر من 30 منظمة دولية وثائق تعاون مع بكين في إطار مبادرة الحزام والطريق، وهي شهادة على جاذبيتها العالمية المتزايدة.

والآن، يدخل التعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق مرحلة جديدة من التنمية عالية الجودة، الأمر الذي يضخ زخما جديدا في الجهود المشتركة التي تبذلها الصين وأمريكا اللاتينية ودول أخرى من الجنوب العالمي نحو التحديث.

وهنا يقول تسوي هونغ جيان، أستاذ أكاديمية الحوكمة الإقليمية والعالمية بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، والذي يشغل أيضا منصب نائب رئيس الرابطة الصينية للدراسات الأوروبية، إن" آليات التعاون مثل مبادرة الحزام والطريق تأخذ في الاعتبار احتياجات جميع الأطراف"، معتقدا أن هذه المبادرة إلى جنب مبادرات أخرى اقترحتها الصين مثل مبادرة التنمية العالمية مردودها عالمي ولا تتوقف ثمارها على العلاقات الثنائية.

 ويؤكد تسوي أنه "من خلال مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق، تواصل الصين المساهمة في الانتعاش الاقتصادي والتنمية على الصعيد العالمي والتمسك بدفع العولمة إلى الأمام في مواجهة سياسات الحمائية والأحادية"، التي تنتهجها دول أخرى.

 

 ثالثا، الاستقرار في عالم يسوده عدم يقين

 في جميع الموضوعات التي تمت مناقشتها خلال هذه الجولة، برزت "الاستقرار" ككلمة رئيسة. ومن التجارة والسياسة إلى الاقتصاد والمالية تكررت في خطابات شي ولقاءاته سواء كان ذلك لتعزيز التنمية المستدامة والمطردة والسليمة للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي في لقائه مع المستشار الألماني أولاف شولتز، أو ما تقدمه تنمية الصين من  مساهمات مهمة في "الاستقرار" والنمو على المدى الطويل لمنطقة آسيا -الباسيفيك" في كلمته بمنتدى القادة الاقتصاديين لمنتدى أبيك.

 ونفس الحال في لقائه مع الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما أكد شي أن العلاقات الصينية الأمريكية "المستقرة" أمر بالغ الأهمية لمصالح الشعبين الصيني والأمريكي ومستقبل ومصير البشرية جمعاء، وعندما أكد أيضا على حاجة مجموعة الـ20 إلى تحسين الحوكمة المالية العالمية وبناء اقتصاد عالمي يتسم بـ "الاستقرار" و"الحفاظ على "استقرار" وسلاسة سلسلة التوريد العالمي.

والاستقرار ليس مجرد كلمة بل واقع عملي يتجذر بعمق في دبلوماسية الصين، التي تتميز بنشاطها المتزايد ومبادراتها الأكثر استقلالية في تعزيز السلام والحوار والمحادثات والتمسك بالتعددية الحقيقية لمعالجة القضايا الساخنة، سواء كانت قضية الشرق الأوسط أو الصراع الروسي الأوكراني أو قضايا أخرى مختلفة مثل التجارة.

وبينما سعى شي مرارا إلى التأكيد على أهمية دعم  نظام التجارة الحرة الدولي، دعا في الاجتماع الـ31 للقادة الاقتصاديين لمنتدى أبيك إلى "هدم الجدران" التي تعيق تدفق التجارة والاستثمار والتكنولوجيا والخدمات، وحث المستشار الألماني على المساعدة في حل النزاع على الرسوم  الجمركية مع الاتحاد الأوروبي بشأن السيارات الكهربائية الصينية، مؤكدا على نهج الصين الدائم لحل الخلافات من خلال الحوار والتشاور.

وفي عالم يسوده شكوك وعدم يقين وحمائية وتهديد أمريكي من الرئيس الأمريكي المقبل دونالد ترامب بزيادة الرسوم الجمركية، تتطلع الدول الأخرى إلى علاقات أكثر استقرارا ومنفعة متبادلة. ونظرا للارتباط الوثيق بين السلام والاستقرار والتنمية والازدهار كان هذا الاتجاه واضحا ومحل توافق عبر خطوط التعاون والتنافس بيين الدول، ولا سيما  في النظر إلى الصين كشريك مهم ومخلص لمواجهة التحديات وتحقيق مستقبل أفضل.

على سبيل المثال لا الحصر، أكد الرئيس الأرجنتيني خافيير مايلي خلال محادثاته مع شي أن "الأرجنتين تأمل في أن تصبح شريكا موثوقا ومستقرا للصين". وأشار رئيس كوريا الجنوبية أيضا إلى أن بلاده تعتبر الصين "شريكا مهما" وتتطلع إلى مواصلة التنمية المستمرة للشراكة التعاونية الاستراتيجية بين البلدين لمواجهة التحديات المشتركة بشكل أفضل والمساهمة في السلام والاستقرار في المنطقة.

رابعا، اعتراف متزايد بدلوماسية الصين

وعلى النقيض من سياسات الغرب ومحاولات تطويقه للصين بذريعة حماية التجارة والأمن القومي وغيرها، يرى الخبراء أن مشاركة الصين في الجهود الدبلوماسية متعددة الأطراف تحظى باعتراف واسع النطاق من مختلف البلدان. فالصين المفتوحة والمتعاونة لا تفيد شعبها فحسب، بل تقدم أيضا نفسها كعامل استقرار ومفيد تنمويا لجميع أنحاء العالم.

ويقول وانغ يي تشو الأستاذ في جامعة بكين ومدير معهد دراسات المناطق في جامعة نانجينغ إن "الصين تلعب دورا بناء وهو ما يفسر اعتراف المزيد والمزيد من البلدان بموقف الصين الدبلوماسي وفلسفتها والترحيب بها في إطار الممارسة الدولية المشتركة".
   وأضاف وانغ وهو أيضا مؤلف كتاب "المشاركة الإبداعية: الاتجاه الجديد للدبلوماسية الصينية"، أن الدبلوماسية الصينية "من خلال تبني ودمج نقاط القوة لدى الآخرين يمكنها إظهار خصائصها الفريدة بشكل أفضل والمساهمة في بناء مجتمع عالمي متنوع ومتناغم من المستقبل المشترك".

واتفقت حلمي على أن النمو الاقتصادي والتنمية في الصين يلعبان دورا رئيسا في تعزيز التنمية العالمية والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي العالمي، مضيفة أن "ما تقوم به الصين من دور نشط في المجموعات الدولية المهمة مثل مجموعة العشرين والبريكس وأبيك وغيرها يدل على علاقة الصين القوية بدعم قضية التنمية في العالم".

وأضافت "تعكس مبادراتها مثل مبادرة التنمية العالمية ومبادرة الحزام والطريق مساهمة الصين في التنمية العالمية ودعمها للبلدان النامية والاقتصادات الناشئة، ما يسهم في تحقيق الاستقرار العالمي".

على كل، من بيرو إلى البرازيل وأبيك إلى العشرين، نجحت الدبلوماسية الصينية بقيادة شي في تأكيد مبادئها وتقديم حكمتها وحلولها للقضايا العالمية ونادي شي بتطبيق القيم المشتركة للبشرية لبناء عالم مشترك عادل ومنفتح وشامل وأخضر يتحقق فيه السلام الدائم والأمن العالمي والازدهار المشترك من خلال التشاور والتعاون والمنفعة للجميع.

وبغض النظر عن أي تغير أو ظروف دولية، ستواصل الصين من جانبها كفاحها من أجل تحقيق ذلك.