ما حكم نَسْب الأعمال الكتابية إلى غير كاتبيها؟.. الإفتاء تجيب
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونة: "ما حكم نَسْب الأعمال الكتابية -كالكتب والمقالات- إلى غير كاتبيها؟ وهل هذا يُعد كذبًا وغشًّا؟".
حكم نسب الأعمال الكتابية لغير كاتبها
لترد دار الإفتاء موضحة: إن من مقتضيات الأمانة العلمية ذكرَ النسبة الصحيحة للأقوال والمؤلَّفات، وإحالةَ كلِّ نقلٍ إلى مصدره، وبذلك يحصل الصدق وتتحقق الأمانة العلمية، وتَحُلُّ بركةُ العلم ونفعُه على ناقله، ويَحرُم شرعًا نسبة الأعمال الكتابية من نحو الكتب والمقالات وغيرها لغير كاتبيها، ومَن يفعل ذلك فإنه يُعدُّ متلبسًا بفعل مُحَرَّم فيه جملةٌ من المحاذير والمخالفات الشرعية: كالغش، والكذب، وادعاء ما للغير، وتشبُّع الإنسان بما لم يُعْط، وخيانة الأمانة العلمية، مما يستوجب المؤاخذة والمأثم.
وتابعت الأفتاء،،حرص الشرع الشريف على تحرِّي الأمانة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما خطبنا نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» أخرجه الأئمة: أحمد وأبو يَعلَى في "المسند"، وابن خُزَيْمَة وابن حِبَّان في "الصحيح"، والبَيْهَقِي في "السنن الكبرى".
ومن جملة الأمانات: إسناد الأقوال والجهود ونسبتها إلى أصحابها، وشُرع لأجل ذلك جملةٌ من الأحكام ليُحفظ بها على الإنسان حقُّه في هذا الباب، فجاء الأمر باحترام حق الأسبقية، وجُعل للسابق ما ليس للمسبوق، فعن أَسمَرَ بن مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فبايعتُه، فقال: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» أخرجه الإمامان: أبو داود والبَيْهَقِي في "السنن".
وعلى ذلك درج أهل العلم والفضل في مؤلفاتهم وكتاباتهم بإضافة الأقوال وعَزْوِهَا إلى قائليها، وعدُّوا ذلك من بَرَكة العلم وشُكره، فعن سفيان الثوري [ت: 161هـ] رحمه الله أنه قال: "نسبة الفائدة إلى مفيدها مِنَ الصِّدق في العلم وشُكره، وأن السكوت عن ذلك مِنَ الكذب في العلم وكُفْره"، كما نقله عنه الحافظ السَّخَاوِي في "الجواهر والدرر" وصحَّحَه (1/ 181، ط. دار ابن حزم).
نسبة الأعمال الكتابية إلى غير كاتبيها
وذكرت الإفتاء،أن ل نسبة الأعمال الكتابية إلى غير كاتبيها تتعارض مع هذا الأصل الثابت والمنهجية العلمية المقررة في أصول الكتابة والتأليف، كان الكاتب الذي يتقدَّم بمؤلَّفٍ أو مقالٍ لم يُعِدَّه بشكل أو بآخر ولم يبذل فيه جهدًا حقيقيًّا، ناسبًا هذا الشيء لنفسه -في الحقيقة مُدَّعيًا ما ليس له، مساويًا نفسه مع غيره من الباحثين والكاتبين الذين اجتهدوا وألفو في هذا الفن؛ وقد ورد النهي عن ذلك والوعيد لفاعله، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِي رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ ادَّعَى مَا ليْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أخرجه الإمام مسلم.
والحديث يفيد "تحريم دعوى ما ليس له في كلِّ شيء، سواء تعلَّق به حقٌّ لغيره أم لا"، كما قال الإمام النَّوَوِي في "شرحه على صحيح الإمام مسلم" (2/ 50، ط. دار إحياء التراث العربي).
كما "يدخل فيه الدعاوى الباطلة كلُّها من المال والعلم والنسب وغير ذلك"، كما قال العلامة ابن العَطَّار في "العدة" (3/ 1379، ط. دار البشائر).
ومِن ثَمَّ كان ادعاء الإنسان ما ليس له من الأعمال الكتابية ونحوها ونسبتها إليه ضَربًا من ضروب الغش والكذب المُحَرَّمَين شرعًا:
فأما وجه الغش: فلإيهام القارئ بأن ذلك نتاج عقل وفكر مؤلفه، وهو في الحقيقة نتاج وثمرة جهد الآخرين، ومن الثابت في الشرع حُرمة الغش بكلِّ أشكاله وأنواعه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أخرجه الإمام مسلم.
وفي رواية: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ» أخرجها الإمامان: ابن حِبَّان في "صحيحه"، والطَّبَرَانِي في "المعجم الصغير" واللفظ له من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فهذا النهي والوعيد يدُلَّان على تحريم الغش مطلقًا، سواء كان الغش في البيع أو في غيره من المعاملات بين الناس، حتى عَدَّ شيخ الإسلام ابنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِي في "الزواجر" (1/ 393، ط. دار الفكر) الغشَّ من الكبائر.
وأما وجه الكذب: فلأن الكاتب أو الباحث الذي يتقدَّم بمؤلفٍ أو مقالٍ لم يُعِدَّه قد كَذَب على الآخرين من القارئين والمتابعين، سواء أكانوا أشخاصًا عاديين أم من أعضاء لجنة التحكيم والمناقشة -متى كان المؤلف أو المقال مُحَكَّمًا-، وهذا مما لا يخفى حرمته، واندراجه تحت مفهوم الكذب، وهو أمرٌ متفق على حرمته، ولا يرتاب أحدٌ في ذمه وقُبحه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى اَلنَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» متفق عليه.
قال الإمام النَّوَوِي في "الأذكار" (ص: 597، ط. دار ابن حزم): [قد تظاهرت نصوصُ الكتاب والسُّنَّة على تحريم الكذب في الجملةِ، وهو من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، وإجماعُ الأمةِ منعقدٌ على تحريمهِ مع النصوص المتظاهرةِ] اهـ. ولذا فهو معدودٌ من الكبائر أيضًا، كما في "الزواجر" لشيخ الإسلام ابن حَجَرٍ الهَيْتَمِي (2/ 322).
ولَمَّا حذَّر الشرعُ الشريفُ المسلمَ من الكذب حتى لا يُكتَب عند الله كذَّابًا، أمره بتحرِّي الصدق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقًا، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا» متفق عليه.
والأمر بأن يكون المسلم مع أهل الصدق وأن يجتنب الكذب يقتضي أن يلازم الصدق في أقواله وأفعاله، والتي منها نسبة الأقوال والأعمال الكتابية إلى أصحابها إن لم يكن هو مصدرها، وإلا فإنه يُعد كَاذِبًا غَاشًّا فيما يقول.
إضافة إلى أن المدعي إذ يُظْهِر نفسَه صاحبَ هذا الجُهْد العلمي المبذول، مُتَشبِّع بما لم يُعْط، متزينٌ بما لم ينل من أصول وأدوات وقواعد العلم الذي قدم فيه هذا العمل البحثي -ومن تلك الأصول والقواعد والأدوات: قدرته على البحث عن المعلومات والحصول عليها من مصادرها الصحيحة، ونسبتها إلى أصحابها، ومن ثَم صياغتها وترتيبها على شكل متقن للوصول إلى النتائج والأفكار المرجوة من العمل الصادر-، مما يعود عليه بالدرجة والمكانة التي لا يستحقها، ويساويه أمام غيره من الكتاب والباحثين والأساتذة الذين اجتهدوا وأبدعوا فيما وصلوا إليه -وخاصة فيما إذا تعلق الأمر بالأعمال الكتابية والمؤلفات البحثية التي تخضع للتحكيم كالرسائل الجامعية والأبحاث المحكمة التي يبنى عليها الدرجات وتولي المناصب العلمية-، وقد جاء عَنِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» متفق عليه من حديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "«كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» أي بأن يلبس ثوبَي وديعةٍ، أو عاريةٍ، فيَظُن النَّاسُ أنهما له، ولباسُهُما لا يدوم، أو بأن يلبس ثيابَ أهل الزهد وقصدُه أن يُظهِر للناس أنه مُتَّصِفٌ به وليس كذلك"، كما قال شيخ الإسلام زَكَرِيَّا الأنْصَارِي في "منحة الباري" (6/ 46، ط. مكتبة الرشد).
فأفاد الحديث: بأن المتزين بما لم ينل، المُتكثِّر بما ليس عندَه، بأن يظهر للناس بما ليس فيه، وبما لا يملكه؛ افتخارًا وتعاليًا: من ادعاءِ العلم وهو ليس بعالم، وادعاءِ الصلاح وهو ليس من أهله، وادعاءِ الجاه والوجاهة وهو ليس من أصحابها، ونحوِه -كلُّ ذلك "مذمومٌ كما يُذَمُّ من لبس ثَوْبَيْ زور"، كما قال الإمام النَّوَوِي في "شرحه على صحيح الإمام مسلم" (14/ 110)، وصار هذا المتشبِّع "بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن"، كما قال الإمام الخَطَّابِي في "معالم السنن" (4/ 135، ط. المطبعة العلمية).
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن من مقتضيات الأمانة العلمية ذكرَ النسبة الصحيحة للأقوال والمؤلَّفات، وإحالةَ كلِّ نقلٍ إلى مصدره، وبذلك يحصل الصدق وتتحقق الأمانة العلمية، وتَحُلُّ بركةُ العلم ونفعُه على ناقله، ويَحرُم شرعًا نسبة الأعمال الكتابية من نحو الكتب والمقالات وغيرها لغير كاتبيها، ومَن يفعل ذلك فإنه يُعدُّ متلبسًا بفعل مُحَرَّم فيه جملةٌ من المحاذير والمخالفات الشرعية: كالغش، والكذب، وادعاء ما للغير، وتشبُّع الإنسان بما لم يُعْط، وخيانة الأمانة العلمية، مما يستوجب المؤاخذة والمأثم.