تحت شعار «الإسفاف طريقك للنجومية».. سر سحب الأغانى الهابطة البساط من الطرب الراقى

لم تعد الموهبة وحدها تكفي للوصول إلى الشهرة، فمع صعود أسماء مثل «كزبرة» بسبب طابعه الكوميدي، و«توليت» لغموض هويته، و«صولا عمر» التي تنازلت عن فنها وقدمت أغنية «أبو أحمد» التي كانت طريقها للجمهور وجعلتها نجمة بمقاييس السوشيال ميديا، بات تقديم محتوى صادم أو مثير للجدل وسيلة سريعة للانتشار.
ما حدث -مؤخرا- بسوق الأغنية من انتشار الأعمال الهابطة، طرح عدة تساؤلات تحاول «النبأ» الإجابة عنها خلال السطور التالية، فهل أصبح الإسفاف مفتاح النجاح، أم أننا أمام تحول جديد في صناعة الموسيقى؟
وفي هذا الصدد، يرى الناقد الموسيقي أحمد السماحي، أن الموضوع يحمل أوجه متعددة، قائلا إن هذا الموضوع جدلي بطبيعته.
وأشار إلى أن الجمهور يميل إلى كل ما هو جميل وراقي، وما يُقدّم له بجودة، والدليل على ذلك الإقبال الكبير على حفلات الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية.
ولفت إلى أن نجاح بعض الظواهر الغنائية مثل «كزبرة» وغيرهم من المؤدين يعود إلى عدة أسباب، متابعا: «جميعهم مؤدون، باستثناء صولا التي يمكن اعتبارها مغنية نوعًا ما، لكن الباقين لا علاقة لهم بالغناء، نجاحهم يعود إلى أنهم خاطبوا التفاهة في أذن المستمع، فالإنسان لديه جوانب مختلفة».
واستكمل «السماحي»: «جيل ضائع لا يجد عملًا ولا يستطيع الزواج، وفي الوقت نفسه ملّ من الأغاني التقليدية التي تتناول الحب والهجر والخصام، فالشباب الذي يمثل أكثر من 60% من الشعب المصري، وجد ضالته في هؤلاء المؤدين، الذين يقدمون أغانٍ ذات مضمون صادم، تعبر عن حالتهم».
وتابع: «هؤلاء الشباب ألقوا بأنفسهم في التهلكة مع هذه الأغاني، لكن هؤلاء المؤدين لا يستمرون طويلًا، وسرعان ما يختفون، فقد رأينا كيف كان مؤدو المهرجانات يسيطرون على المشهد الغنائي حتى تفوقوا على عمرو دياب في فترة معينة، لكن أين هم الآن؟ لا أحد يسمع عنهم، ومن بقي منهم، فهو موجود على استحياء، بلا السطوة التي كان يملكها منذ خمس سنوات».
واستطرد: «لا يمكن القول أن الفن الهابط يصنع الشهرة، بل الفن الدارج الذي يقدم كلمات مختلفة وغير متداولة هو ما يجذب الجمهور، فلو قُدمت اليوم أغنية مثل "الأطلال"، لن يهتم بها أحد، لأن الناس سمعوا مثلها والأفضل منها مرارًا، الجمهور يريد المختلف، وهذا ينجح مع البعض ويفشل مع آخرين».
واختتم «السماحي» حديثه قائلا: «على سبيل المثال، توليت كان موجودًا منذ فترة، لكنه لم يُعرف إلا عندما أخفى هويته، لأنه بذلك قدَّم شيئًا مختلفًا».
كلاشيهات وقولبة
فيما رفض الناقد الموسيقي محمد شميس تصنيف الأغاني بوصف «هابطة»، مؤكدًا أن لكل شخص الحرية في التعبير عن نفسه من خلال الغناء.
وأضاف «شميس»: «أنا من الداعمين لتقديم أشكال مختلفة من الموسيقى، ولكن يبقى السؤال هنا: ما مفهوم الأغنية القيمة؟ وما أعظم الأغاني التي تُصنَّف على أنها ذات قيمة؟ على سبيل المثال، تعتبر أغنية "ألف ليلة وليلة" واحدة من أنجح أغاني أم كلثوم، ولكن إذا تأملنا في معاني كلماتها، سنجد فيها إيحاءات رومانسية قوية، وكذلك الحال مع أغنية "أنت عمري"، التي تصف امرأة حبيبها بأنه كل حياتها، فما القيمة المضافة في ذلك؟ في النهاية، يبقى الأمر مرتبطًا بفكرة الحب والتعبير عنه».
وأشار إلى أن طريقة التعبير عن المشاعر تختلف من شخص لآخر، وفقًا لظروفه الاجتماعية والمادية، فالفرد الذي ينتمي إلى طبقة أكثر فقرًا أو يعاني من ضغوط اقتصادية سيعبّر عن مشاعره وحياته بطريقة مختلفة عن شخص آخر يعيش في ظروف مريحة.
وأضاف: «على سبيل المثال، نجد أن كلمات أغاني كزبرة تحتوي على عبارات شعبية مؤثرة، مثل "عليا الطلاق كله بيكدب"، وهي تحمل نفس المعنى الذي قالته شيرين عبد الوهاب في أغنيتها "في الزمن ده الكذابين اتمكنوا وكتّروا". الناس تشيد بهذه العبارات، ولكن الفرق يكمن في هوية المغني ومن هو الذي يقولها».
وأوضح «شميس»، أن المجتمعات العربية، وخاصة المجتمع المصري، تعاني من «كلاشيهات» ونظرة نمطية مقولبة يجب أن توضع فيها الموسيقى، وهو ما يجعل المجتمع لا يقبل التنوع.
واستكمل: «مؤخرًا، هناك محاولات لتكسير هذا الجمود، ولكننا ما زلنا في مجتمع الحزب الواحد، والدين الواحد، والنادي الواحد، والممثل الواحد، والمغني الواحد. لا نقبل التعددية».
أسباب الانحدار
من جانبه، يرى الدكتور أشرف عبد الرحمن، رئيس قسم النقد الموسيقي بأكاديمية الفنون، أن المشكلة الأساسية التي تواجه الذوق العام في مصر خلال العشرين سنة الأخيرة تكمن في الانحدار الكبير، بدءًا من ظهور الكليبات المثيرة، مرورًا بالمهرجانات، وصولًا إلى الأغاني التي نسمعها اليوم.
وأوضح أن كل مطرب أصبح يمتلك منصة خاصة به على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يتيح له تحقيق التريند بطرق مختلفة عن الماضي، وهو ما أدى إلى توقف شركات الإنتاج التقليدية عن العمل تمامًا.
وأضاف «عبد الرحمن»، أن ظهور هؤلاء المغنين في السينما والتلفزيون ليس دليلًا على موهبتهم، وإنما هو استغلال من قبل شركات الإنتاج لشهرتهم الرقمية لتحقيق أرباح مادية، دون الاهتمام بالقيمة الفنية.
وأشار إلى أن هذا الواقع دفع البعض إلى السعي وراء التريند بأي وسيلة، إلا أن المغني الحقيقي يجب أن يتمسك بالقيم ولا ينحدر إلى مستوى الأغاني الهابطة من أجل الشهرة والمال، مؤكدا أن هؤلاء المغنين، بمجرد توقفهم عن الغناء، سيتم نسيانهم سريعًا، وليس فقط بعد وفاتهم.
وانتقد «عبد الرحمن» محاولات تشبيه الأغاني الحالية بأغاني أم كلثوم، معتبرًا ذلك ظلمًا كبيرًا، إذ إن كوكب الشرق قدمت «الغزل العفيف»، بينما تتسم الأغاني الحديثة بغزل صريح، بل وجنسي في بعض الأحيان.
وأكد أن أحد أسباب نجومية هؤلاء المطربين هو انحدار الذوق العام في عصر الانفتاح الرقمي، حيث أصبح الإنترنت والفيديوهات والاختلاط بالثقافة الغربية عاملًا رئيسيًا في تغيير المفاهيم والقيم.
وتطرق «عبد الرحمن»، إلى ضرورة تفعيل دور وزارة الثقافة بشكل حقيقي، من خلال إنتاج أعمال غنائية تحمل القيم والمبادئ والتقاليد.
وأكد أن السوشيال ميديا لعبت دورًا خطيرًا في إفساد الذوق العام، وأن غياب النقاد أدى إلى انعدام التوجيه الصحيح للجمهور.
واختتم «عبد الرحمن» حديثه بالإشارة إلى الفرق بين رموز الفن قديمًا والآن، لافتا إلى أن أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم كانوا سفراء للثقافة المصرية على مستوى العالم، بينما أصبح رموز الثقافة اليوم هم «حمو بيكا» و«شاكوش»، وهو أمر مؤسف.
مبدأ خالف تعرف
وفي سياق آخر، أكد الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، أن انتشار الأغاني المثيرة للجدل والاهتمام بمن يغنيها يعود إلى مبدأ «خالف تُعرف»، حيث إن كل ما هو مختلف أو صادم يحقق انتشارًا واسعًا.
وأشار إلى أن هذا المبدأ ليس جديدًا، مستشهدًا بالأديب نجيب محفوظ، الذي لم يحصل على جائزة نوبل عن أعماله الأدبية الشهيرة مثل الثلاثية، بل نالها عن رواية أولاد حارتنا، التي أثارت جدلًا واسعًا بسبب شخصية «الجبلاوي»، التي رأى البعض أنها تحمل دلالات دينية مثيرة للجدل عن ان الله ظالم للناس، وكانت هذه الضجة أحد الأسباب التي جعلت الرواية تفوز بجائزة نوبل.
وأوضح «فرويز» أن المحتوى السطحي أصبح الأكثر انتشارًا على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يبحث كثيرون عن الترفيه والهروب من الواقع، مما جعل النجاح مرتبطًا أكثر بالإثارة والجدل بدلًا من القيمة الفنية أو الأدبية.
وأضاف أن الأشخاص الذين يعانون من حرمان عاطفي أو فراغ نفسي هم الأكثر انجذابًا إلى المحتويات العنيفة أو المثيرة، حيث يجدون فيها تعويضًا لنقص داخلي أو وسيلة للهروب من الواقع.
وأشار إلى أن محاولات اختراق المجتمع المصري ثقافيًا بدأت منذ عقود، مستشهدًا بأغنية «الطشت قاللي» التي أُنتجت في السبعينيات وقوبلت حينها برفض شديد، إذ اعتبرها المجتمع خروجًا عن الذوق العام.
وأشار إلى أن هذا التدهور القيمي ليس عشوائيًا، بل نتيجة خطط ممنهجة تهدف إلى تفكيك المجتمع المصري وإبعاده عن طبيعته المتماسكة، ومع ذلك، الشعب المصري يظل قادرًا على استعادة هويته الحقيقية رغم كل المحاولات لإضعافه..