رئيس التحرير
خالد مهران

الضفيرة.. وجيش المكرونة.. وكامب ديفيد.. والصفقة!

محمد على إبراهيم
محمد على إبراهيم



بمجرد صعودك لطائرة الرئيس الأسبق/ مبارك.. تتسلم ورقتين.. الأولى بها جدول الزيارة والثانية- وهى الأهم- بها اسم الفندق الذى ينزل به الوفد الرسمى وأرقام غرفهم.. الرحلات الخارجية فرصة ذهبية للصحفى ليعرف الحقيقة من مصادرها الرئيسية أو كما يقولون بالإنجليزية First Hand Information.. دائماً ما كنا نتصل بوزير الخارجية آنذاك، أحمد أبوالغيط، ومدير المخابرات العامة عمر سليمان.. الأخير كنز معلومات وخزينة أسرار متحركة.. لا يفصح إلا لثقاته.. حريص على تجنب الأضواء.. كثيراً ما كان الرئيس الأسبق يطلب إليه على الطائرة أن يتولى الشرح لرؤساء التحرير فى ملفات تصدير الغاز والقضية الفلسطينية أو سد الألفية أو مشاكل الحدود والعلاقات مع ليبيا والسودان وأنفاق غزة وغيرها.. أحمد الله أن علاقتى به كانت طيبة للغاية.. وتجاسرت أكثر من مرة على الاتصال به للاستفسار عن قضايا، وكانت ردوده تبدأ وتنتهى بالتأكيد على عدم النشر.. أذكر أننا كنا فى زيارة لفرنسا، بعد اقتحامين من جانب حماس لحدودنا، نتيجة اعتداءات إسرائيل على غزة عام 2009.. سألته: «الصهاينة يدفعونهم نحو حدودنا.. إيران وسوريا يشجعانهم بقوة.. تركيا دخلت على الخط.. والبريطانى جورج جالاوى يرسل قوافل إغاثة واتحاد الأطباء العرب والإخوان.. لا مؤاخذة يا فندم إحنا أصبحنا متهمين بالعمالة لإسرائيل!..»، قال: «لا يخدعك هذا السيرك.. مصر تعرف جيداً ألعاب الحواة، وتلتقط الثعابين وتروّض النمور».. ومضى قائلاً: «أريدك فى كل الأزمات أن تستعمل نظرية (الضفيرة)!»، «ما هى يا فندم!»، أجاب: «ليست هناك أزمة واحدة.. اربط الأزمات ببعضها تكتمل الضفيرة.. تركيا تعادى إيران، لكنها تناصر سوريا حليفة إيران.. حماس واجهة لمقاومة حالمة واختطافها للجندى الإسرائيلى جلعاد شاليط ليس بطولة ولكن لابتزاز العرب.. هم يعرفون أننا سنساعد فى إعمار غزة (وتصب) السعودية دولاراتها عليهم، ثم يتنازعون أمرهم بينهم.. مَن الذى يصرف الأموال.. فتح أم حماس؟!، الإخوان وفرعهم فى غزة وحلفاؤهم فى تركيا يسعون لحصار مصر إعلامياً تمهيداً لهز الثقة فى نظامها.. ينظرون إلينا على أننا الجائزة الكبرى لمؤامرة الشرق الأوسط الكبير.. من ثَمَّ لابد أن يكون رد فعلنا هادئاً وبارداً وألا ننساق إلى انفعالات أو يجرونا إلى فخاخ.. تمثيلية جر مصر إلى حرب للدفاع عن سوريا عام 67 لن تتكرر، ونحن نحرك بيادق الشطرنج، ولا أحد يحركنا».. سألته: «لكن مشكلتنا أن (كامب ديفيد) (تقيدنا)، ولا نستطيع التحرك إذا ما حاق بسيناء خطر..»، بهدوئه الذى يملؤك ثقة قال: «خليهم يجربوا.. أهلاً وسهلاً»، «يعنى إيه يا فندم؟»، بصوته العميق يرد: «تصبح على خير»..

هذه المقدمة أراها ضرورية للتعليق على العمليات العسكرية الدائرة الآن فى سيناء.. مبتئس أنا من جنرالات الفيس ومؤيدى الرئيس.. الذين ينتقدون العمليات ومَن يرونها أكبر من حرب أكتوبر بمراحل.. الأخطار تختلف.. والسادات- الذى اتهمه الناصريون بالخيانة لتوقيعه «كامب ديفيد»- ها هم يرون الآن أنها ليست أكثر من ورقة نمزقها إذا دعت الضرورة، كما قال فى أكثر من حوار مع موسى صبرى وأنيس منصور..

صحيح أنا مختلف مع سياسات النظام الاقتصادية ومشروعاته القومية وضرائبه اللانهائية وأسعاره الفلكية فى العقارات والخدمات وإصراره على أن تكون ميزانية الدولة من جيب المواطن، والإهمال يسيطر على الشوارع وتزكم القمامة الأنوف.. لكن يبقى الجيش الميزة الوحيدة لبلدى، الذى يعانى افتقاد الديمقراطية وغياب حرية الرأى وتخوين المعارضة وعدم احترام حقوق الإنسان.

لو خُضت مع الخائضين وقلت إنه جيش المكرونة والجمبرى والفراخ واللحمة والتموين، فإننى أتخلى عن سيفى الوحيد القادر على قطع رؤوس الأفاعى وذيول التماسيح..

العملية العسكرية الشاملة براً وبحراً وجواً فى سيناء لها عدة أهداف، ومن الخطأ إدخالها فى مقارنات بحرب أكتوبر أو غيرها، فلكل فترة تحدياتها وتحالفاتها وتوازنات القوى بها.. أول أهدافها إثبات ما قاله العظيم الراحل أنور السادات عن «كامب ديفيد» بأنه إذا تعرض الأمن القومى لأى من طرفيها يتم تعديلها فوراً لدرء هذا الخطر، بشرط مرور عشر سنوات على توقيعها الأولى، أى لا تُعدل قبل 1989، وهى فترة الالتزام الدولى بضمانة أمريكا.. ولكل المُشكِّكين فى قوة ووزن مصر العسكرى والساخرين من مكانتها الإقليمية.. أُذكِّركم بأن بلدى فى أقصى ضعفه من 2011 إلى 2012 استطاع تعديل الاتفاقية، لأول مرة، وانتشر الجيش فى المنطقة (ج) بكثافة عالية وبتشكيلاته الثلاثة لإغلاق منافذ الإرهاب التى تتدفق علينا.. ورغم أن الاتفاقية تنص على عدم التعديل مرة ثانية إلا بعد مرور 10 سنوات أخرى، فإن السيسى مارس ضغطاً شديداً على أمريكا، (الراعى الرسمى لكامب ديفيد)، لتعديلها مرة أخرى قبل الموعد المحدد 2022، ورضخت رغماً عنها!، لماذا؟، صحيح أنهم يتمنون أن تسقط مصر اليوم قبل الغد، لكنهم يعلمون أيضاً أن الإرهاب إذا طال سيناء فسيمتد إلى إسرائيل ويهددها، ثم السعودية.. وأعود إلى نظرية «الضفيرة» التى حدثنى عنها الراحل عمر سليمان.. الأمن متشابك.. الحدود إذا تهددت تتداعى المصالح مثل البترول وحرية الملاحة فى الممرات الدولية وأمن المواطن الإسرائيلى.. لقد باشر الجيش التعديل قبل أن تصل الموافقة الأمريكية الرسمية مع وزير الخارجية الأمريكى مؤخراً.. وهكذا بدأت العملية «شامل»، وهو اسم له ذكرى عند جيلى «الأكتوبرى»، فقد كانت «شامل» هى الخطة التى رفعها المشير الجمسى إلى السادات لتصفية الثغرة كى يقود الاقتحام اللواء سعد مأمون، بعد شفائه من الأزمة القلبية التى تعرض لها، وكادت تتم فى الأسبوع الأول من ديسمبر 1973 لولا وصول «كيسنجر» وتهديده للسادات بإفناء الجيش المصرى إذا تمت تصفية الثغرة، لذلك ذهب إلى مجلس الشعب، وقال: «أنا لن أحارب أمريكا»..

ثانى الأهداف هو الرد على دعاوى «صفقة القرن»، والزعم بأن مصر تشن الحرب ضد الإرهاب لإخلاء سيناء وتوطين الفلسطينيين بها وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل.. طيب إذا كنا موافقين ياخدوها بنقفلها عليهم ليه؟، ألا تستطيع أمريكا استنفار مجلس الأمن لإصدار قرار بنشر قوات دولية بطول سيناء، بزعم أن حدودها شاسعة والإرهاب يرتع فيها، ثم يحدث قتل لجندى أو اثنين من قوات الطوارئ، فتقع الثمرة «مقشرة» فى حجر واشنطن وتل أبيب وينقلون الفلسطينيين إليها باعتراف دولى؟.

بصراحة أنا لم أتوقع خيراً من «صفقة القرن»، وأخشى دائماً على مصر من مؤامرات ترامب ونتنياهو.. لكن من ناحية أخرى لا أهضم أن يكون الجيش «عميلاً» أو «متآمراً» ضد البلد.. ببساطة هذه ستكون توطئة لثورة كبرى لن تكون كـ«يناير» أو «يونيو»، لكنها لن تُبقِى أو تَذَر..

ثالثاً: أعود إلى نظرية الضفيرة، فالتحرشات التى قامت بها تركيا بقبرص وشرق «المتوسط» سعياً للسيطرة على حقول الغاز بمساندة إسرائيل، والتحذير المصرى المباشر لها، تصب فى مثلث التآمر، الذى يضم الدوحة وتل أبيب وأنقرة، برعاية أمريكا.. نحن لا نواجه إرهاباً فقط، ولكن نواجه تهديداً لقوة اقتصادية بازغة، هى مصر، ربما تكون هى مصدر الطاقة الأول لجنوب أوروبا كلها.. باختصار يتقاسم الحليفان المصرى والروسى إمداد القارة العجوز بالطاقة، وتخرج تركيا وإسرائيل من معادلة القوة الجديدة.. الكهرباء والتدفئة ووقود السيارات أسلحة لا تقل أهمية عن الترسانات الضخمة.

ما يجرى فى سيناء إذن رسالة إنذار مبكر للقوى الإقليمية.. رسالة تؤكد أن الأمن القومى المصرى ليس أرضاً فقط، ولكن الأرض وما عليها وما تحتها وسواحلها وثرواتها.. العملية الشاملة فى سيناء ترد على أى مناورات أمريكية إسرائيلية أو تركية، وإثبات أننا نملك الحرب الإلكترونية والعتاد اللوجيستى والتعاملات الأرضية.. لا ننسى كذلك الدفع بطائرات إنذار مبكر.. هل تستعرض مصر قوتها؟.. نعم.. لماذا تأخر الحشد طوال 3 سنوات؟.. لأن النوايا التركية إزاء الغاز وتمويل وتسليح داعش لم تكن قد ظهرت بعد.. فى نفس توقيت العملية «شامل» أسقط الدفاع الجوى السورى طائرة إسرائيلية بصاروخ سام قديم.. ويثبت السوريون أن السلاح بالرجل وليس الرجل بالسلاح.. المعنى الاستراتيجى يفهمه العسكريون.. إنه إذا كانت هناك حرب فلن نكون بمفردنا.. ستختفى الخلافات ويتوحد الأمن القومى العربى مرة أخرى.. ستقولون إننى أحلم أو أتفاءل.. حسناً ستظل ثقتى فى جيشى- فقط- ثابتة.. والله من وراء القصد..

نقلًا عن «المصري اليوم»