الهند.. العملاق الصاعد «1»
في منتصف خمسينات القرن الماضي كان العالم مستقطبا بين كتلتين عظيمتين مسلحتين حتى النخاع بالأسلحة النووية وهما الكتلة الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية الاستعمارية بزعامة أمريكا.
وبزغ من صفوف دول العالم الثالث الذي كان يسمى الدول النامية ثلاثة زعماء عمالة دعوا إلى ما يعرف بالحياد الإيجابي بين الكتلتين العملاقتين والحرب الباردة الدائرة بينهما وهم جمال عبد الناصر في مصر وجواهر لال نهرو في الهند، وجوزيب بروز تيتو في يوغسلافيا.
وفي مؤتمر باندونغ في مايو عام 1955 وضع الزعماء الثلاثة ومعهم عدد كبير من قادة دول العالم الثالث وعلى رأسهم سوكارنو رئيس أندونيسيا، قواعد ما عرف بحركة الحياد الإيجابي بين الكتلتين العظيمتين.
وكان الزعماء الثلاثة عبد الناصر ونهرو وتيتو غاية في التقارب والصداقة الشخصية والإسراع في إنقاذ العالم من حرب نووية بين الكتلتين العظيمتين تدمر العالم كله ولا يبقى بعدها غالب أو مغلوب.
كانت السياسية الخارجية للزعماء الثلاثة متطابقة تقريبًا، أما داخل بلد كل منهم فكان الخلاف جذريًا في أسلوب الحكم، فبيتما أدرك نهرو بعبقرية الزعيم أن بلدًا مترامي الأطراف مثل الهند متعدد الأعراق واللغات والديانات يستحيل حكمه حكمًا سلميًا يطوره إلا من خلال ديمقراطية فدرالية تراعي الفروق الإقليمية وتحتم تبادل السلطة بين الأحزاب القائمة من خلال انتخابات حرة من آن لآخر، ورأى رفيقاه عبد الناصر وتيتو أن الديمقراطية لم يحن أوانها وأن العدالة الإجتماعية ورفع مستوى الفقراء هي أولويتهما عندئذ.
وسار نهرو في طريق إرساء قواعد الديمقراطية الفدرالية في الهند ودرب خلفاءه عليها وأرسى قواعدها الراسخة لدرجة أن ابنته الوحيدة أنديرا غاندي عندما أصبحت ثالث رئيسة لوزراء الهند بعد وفاته وأجرت انتخابات حرة خسرت أغلبيتها البرلمانية فيها فقامت بتسليم السلطة لزعيم الحزب المعارض في نفس اليوم ولم تحاول التمسك بالحكم بحجة تزييف الانتخابات كما يفعل الكثير من قادة العالم الثالث.
أما رفيقا نهرو عبد الناصر وتيتو اللذان ضربا عرض الحائط بالديمقراطية فقد كانت النتيجة مآساوية لبلديهما، فبإختصار عندما مات عبد الناصر استطاع من خلفه في الحكم تحويل مصر من أقصى اليسار لأقصى اليمين بجره قلم إذ لم يعد هناك رأي عام يدافع عن أركان الدولة التي بناها عبد الناصر على أسس اقتصاد اشتراكي من خلال حكم عسكري صريح بغلاف مدني وانفراد بالسلطة المطلقة أدى إلى كوارث لمصر كان على رأسها هزيمة عام 1967 في حربها مع إسرائيل.
أما تيتو الذي كانت دولته يوغسلافيا مكونة من ستة جمهوريات وإقليمين مستقلين ذاتيًا تحكم بدورها بدكتاتورية صارخة فبمجرد وفاة تيتو انفجر الاتحاد اليوغسلافي ودخلت جمهورياته في حرب إبادة بين الجمهوريات وكانت جمهورية الصرب أكثر جمهوريات الاتحاد شراسة وعدوانية في حرب الإبادة التي شنتها على جيرانها ولم تهدأ الأوضاع وتذهب كل جمهورية في طريقها إلا بعد سقوط مئات الألوف من القتلى والجرحى وتدخل الغرب عسكريًا ضد جمهورية الصرب.
ونترك للقارئ الحكم على ما إذا كانت الديمقراطية ترفًا كما كان عبد الناصر وتيتو يعتقدان أم ضرورة لنهضة الدولة كما كان نهرو يعتقد.
ونقدم في هذه السلسلة ماذا فعلت الديمقراطية للهند التي أصبحت اليوم إحدى الدول العظمى التي تتمتع بالاكتفاء الذاتي من القمح الذي تطعم به شعبها الذي وصل تعداده اليوم إلى مليار نسمة، وتنتج أسلحتها من مختلف المعداتى العسكرية والطائرات الحربية والصواريخ التي اجتازت بها الفضاء وتعتبر أول دولة في العالم في إنتاج البرامج، وتقف في صدارة دول مجموعة بريكس الصاعدة التي تجول مركز النقل العالمي تدريجيا من الغرب إلى الشرق وتكون مجموعة اقتصادية سرعان ما سينهار أمامها الاحتكار الغربي للتجارة الدولية وسيطرة الدولار كعملة دولية واستبدال الاحتكار الغربي للتجارة الدولية عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بمؤسسات دول البريكس الصاعدة، وكلمة بركس هي اختصار لدوله الخمسة المكونة له وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.