أتون القدر «30»
وبدأ السادات بحذر تحويل سياسة مصر الخارجية من أقصى اليسار نتيجة علاقة القاهرة بموسكو إلى أقصى اليمين نتيجة علاقاته الجديدة مع أمريكا التي أعلن مرات عديدة دون حياء أنها تملك 99% من أوراق حل مشكلة الشرق الأوسط، وكانت سنوات الديكتاتورية الطويلة خلال حكم عبد الناصر قد أخرجت القوى السياسية المدينة من المسرح السياسي تمامًا، وجعلت منها أفراد انتهازيين في خدمة الحاكم - أي حاكم - لقاء فتات الموائد التي يلقيها لهم، ولذلك لم يجد السادات أي قوة شعبية تردعه في تغيير اتجاهه الجديد نحو أمريكا والغرب أو تدافع عما كان يسمى وقتها مكتسبات الجماهير الاشتراكية والقاعدة الصناعية التي نشأت خلال سنوات حكم عبد الناصر وبلغ خواء الرجال من الداخل وهشاشة معتقداتهم لدرجة أن بعض أقطاب اشتراكية عبد الناصر الذين كتبوا الميثاق الاشتراكي سنة 1962 وأشرفوا قبل ذلك على تأميمات سنة 1961 كانوا هم أنفسهم الذين سارعوا نحو السادات يباركون اتجاهه نحو أمريكا ويضعون له خطوط سياسة الانفتاح الاقتصادي ويشرفون على تنفيذها ولم يشأ فقهاء السلطة خدم كل عهد أن يتخلفوا عن الركب وما يتيحه من مكاسب فبعد أن كانوا يرددون أيام عبد الناصر أن الاشتراكية هي التطبيق الصحيح للإسلام لقول الحديث النبوي الشريف: «الناس شركاء في ثلاثة لماء والأكل والنار» أصبحوا بعد الانفتاح الاقتصادي أيام السادات يرددون دون أي حياء أن الاشتراكية كفر بواح ومصادره لأموال الناس يلعنها الله والملائكة والناس أجمعون وهكذا تحول بندول الساعة الاقتصادية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين دون أن يهتز موقع الساعة على الحائط.
وأدرك السادات بذكاء سياسي وخبرته الطويلة أنه لن يستطع الاحتفاظ بالسلطة طويلًا ما لم يقدم للشعب حلًا للصراع العربي الإسرائيلي يضمن انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأرض المصرية وأدرك أن أمريكا لن تساعده في ايجاد حل ما لم يقدم لها شيئًا يضمن مصالحها في المنطقة.
مقدمات حرب أكتوبر 1973:
وكانت مصالح أمريكا الأساسية في المنطقة ما زالت تتلخص في ثلاث: أمن إسرائيل واستمرار تدفق بترول الخليج إليها وعدم قيام قوة عسكرية اقليمية تناوئ النفوذ الأمريكي في المنطقة.
أدرك السادات بذكائه السياسي أن ذلك يتطلب عدة خطوات لن تعارضها أمريكا لأنها تصب في مصلحتها في المدى الطويل وهي:
1- تحريك الموقف العسكري بمعركة محدودة تعيد لمصر شيئًا من كبريائها بعد هزيمة سنة 1967 ولكنها لا تصل إلى درجة هزيمة إسرائيل وإزالتها من الوجود.
2- الإعداد لصلح منفرد مع إسرائيل يرفع عن كاهل مصر عبء الصراع العربي الإسرائيلي ويطمئن أمريكا إلى أن مصر لا تخطط للتحول لقوة اقليمية كبرى تساندها نقابة عسكرية من الجيوش العربية.
ولم يجرؤ السادات طبعًا على المجاهرة بأن صلحه مع إسرائيل سيكون منفردًا فسيأتي ذلك في حينه بطريقة كريمة له.
بدأ السادات يعد العدة بجدية كاملة لمعركة محدودة تحرك الموقف العسكري واستغل إمكانيات روسيا العسكرية والتدريبية إلى أقصى الطاقة بما يمكن من أداء عسكري مشرف، وكان شريكه في هذه المعركة التي اقتصر سرها على الرجلين فقط هو والرئيس السوري حافظ الأسد الذي كانت لديه نفس مشكلة السادات في أرض الجولان التي تحتلها إسرائيل والذي اعتلى عرين الحكم المُطلق في سوريا من خلال انقلاب عسكري سنة 1970 وهي نفس السنة التي اعتلى فيها السادات عرش الحكم المُطلق في مصر.
وبعد أن اطمأن السادات إلى قدرة جيشه على أداء عسكري مشرف خاصة بعد أن استكمل بناء حائط الصواريخ بالقرب من قناة السويس الذي كان دفاعه الأساي في وجه التفوق الجوي الساحق للطيران الإسرائيلي والذي كان الحماية الوحيدة للجيش الذي سيعبر قناة السويس، وهي عملية مستحيلة دون غطاء جوي بعد أن اطمأن السادات إلى أن قدراته اقتربت من امكانية تحقيق أهدافه بدأ يتحرش بالجانب الروسي لخلافات عديدة ليس هذا مجال تفصيلها ثم قام فجأة في صيف سن 1972 بطرد الخبراء السوفيت من مصر معلنًا انتهاء مهمتهم وشكره الجزيل لهم.
وكان السادات بهذه الخطوة يريد طمأنة أمريكا أن أي أداء عسكري مصري يرفع من صورته أمام العالم لن تستفيد منه روسيا سياسيًا أو استراتيجيًا حيث ستحسب نتائجه لمصر وحدها.
في خلال سنوات الإعداد للمعركة كانت إسرائيل تعربد في سماء المنطقة وتغير على مصر وقتما تشاء، وتقتل من المدنيين ما تريد دون رادع حتى سلم السادات قيادة عمليات الطيران المصري إلى روسيا، ولم تحد إسرائيل من غلوائها إلا عندما أدركت إنها ستتورط في حرب جوية ضد الاتحاد السوفيتي الذي كان طياروه يشتركون مع الطيارين المصريين في التصدي للغارات الإسرائيلية.
طوال سنة 1973 حتى اندلاع الحرب في 6 أكتوبر كان السادات والأسد يخططان بتكتم شديد وتمويه غاية في الكفاءة لليوم الموعود وكانت ساعة الصفر 2 بغد الضهر 6 أكتوبر حيث زعمت مصر أن إسرائيل هاجمتها وأنها ترد الهجوم وفي نفس اللحظة كان الجيش السوري يعبر خطوط الهدنة في الجولان المحتل مندفعًا نحو بحيرة طبرية تمهيدًا لضرب إسرائيل في أضعف نقاطها وأضيق أراضيها التي لو وصلتها الدبابات السورية لتمكنت من قطع إسرائيل إلى قسمين وكان عبور الجيش المصري أسطوريًا استخدم فيه خمسة فرق وفتح الثغرات في الحائط الرملي الذي أقامته إسرائيل على الشاطئ الشرقي للقناة بمدافع مائية هائلة القوة ابتكر فكرتها بطل شاب من أبطال سلاح المهندسين المصري.
وبحلول مساء نفس اليوم كانت مصر المسيطرة سيطرة شبه تامة على الضفة الشرقية للقناة بعمق حوالي 15 كيلو متر وهو المدى الذي يدخل تحت حماية حائط الصواريخ وقامت بعزل نقط المقاومة الإسرائيلية الباقية من خط بارليف الإسرائيلي والتي استسلمت الواحدة بعد الأخرى.
وأصيبت إسرائيل بالهلع وكان الخطر السوري أشد عليها من الجبهة الجنوبية المصرية، فالجيش المصري لو تقدم سيكون تقدمه فوق أرض سيناء الصحراوية قبل الوصول للحدود مع إسرائيل.
أما الجيش السوري فيكفي أن يتقدم عشرين كيلو متر في بعض النقاط حتى يصل إلى شواطئ البحر الأبيض ويشطر إسرائيل شطرين في إحدى أكثر مناطق إسرائيل ازدحامًا بالسكان لذلك قام الجيش الإسرائيلي بعملية دفاع لتثبيت الجبهة المصرية مؤقتًا وانطلق بكل قوته نحو الجبهة السورية التي ركز قوته عليها تمامًا في الأيام الأولى، وأصيب دايان وزير الدفاع الإسرائيلي بشبه انهيار كما اعترفت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل فيما بعد.