عودة إلى أزمة السد الإثيوبى: الشريك السودانى
فى ماراثون التفاوض بين إثيوبيا ودولتى المصب مصر والسودان تتأكد ضرورات ترميم أية فجوات بين البلدين الشقيقين وبناء تصورات مشتركة للخطوات المقبلة دون استبعاد سيناريو واحد.
ترميم الفجوات شرط التقاء تصورات ومصالح عند الطرق المسدودة.
لم يكن التسويف الإثيوبى بالتعنت الزائد تعبيرا عن غياب فى الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق نهائى وملزم بين الدول الثلاث كما قيل وتردد فى الخطاب الدبلوماسى.
كان ذلك مقصودا ومنهجيا لوضع دولتى المصب تحت سطوة الأمر الواقع بملء خزان السد والتحكم فيما يصل دولتى المصب من مياه دون اتفاق قانونى ملزم.
بعد الملء الأول تحدث المسئولون الإثيوبيون بصلافة أن نهر النيل أصبح «بحيرة إثيوبية»، لا نهرا دوليا تسرى عليه القوانين والاتفاقيات المستقرة.
ثبت بيقين بعد طول تفاوض أن الأزمة سياسية واستراتيجية قبل أن تكون فنية وقانونية.
بالمعنى السياسى فإن مشروع السد يكاد أن يكون نقطة الإجماع الوحيدة بين المكونات العرقية الإثيوبية المتنافرة.
هذه مسألة يصعب تجاوزها بالإفراط فى حسن النية، التى قد تفسر بأنها ضعف وعجز يغرى بمزيد من الاستهانة بأى حقوق لدولتى المصب.
بالمعنى الاستراتيجى فإننا أمام إعادة صياغة لحقائق القوة فى الإقليم تتداخل فيها بالتحريض والتمويل حسابات ومصالح كبرى، بعضها ظاهر على سطح الحوادث وبعضها خاف ينتظر أن يعلن عن نفسه لحظة ابتزاز مصر بالمياه، شريان الحياة فيها.
أين المصالح السودانية بالضبط.. وفيما تتفق وتختلف مع الحسابات المصرية؟
هذا سؤال إجبارى يتجاوز ما هو فنى وقانونى إلى ما هو سياسى واستراتيجى.
تكاد المقاربات السياسية أن تغيب عن الملف الوجودى.
السؤال الجوهرى الآن، وإجابته لا بد أن تكون سياسية أولا: ما العمل إذا ما قررت دولتا المصب الانسحاب من مفاوضات افتقدت معناها وجديتها واحترامها؟
بتعريف الأزمة فإنها وجودية وتحدياتها الضاغطة تساعد على ترميم الفجوات الماثلة فى نظرة كل بلد للآخر لكنها لا تكفى وحدها.
هناك شكاوى سودانية مستديمة، معلنة ومكتومة، من أننا فى مصر لا نعرفهم بما فيه الكفاية، حركة المجتمع، أزمات الاقتصاد، ثقافة البلد وفنونه، نخبه السياسية وقواه القديمة والحديثة.
لعقود طويلة استقر فى الخطاب العام مفهوم «السيادة المصرية على السودان»، دون التفات إلى أن العالم قد تغير، والسودان تغير، وحل محله مفهوم هو «وحدة وادى النيل تحت التاج المصرى» ترتيبا على معاهدة (١٩٣٦)، التى وقعها الزعيم الوفدى «مصطفى النحاس» مع سلطات الاحتلال البريطانى، قبل أن يحصل السودان على استقلاله فى السنوات الأولى لثورة يوليو.
هكذا دأبت أعداد كبيرة من السياسيين والصحفيين المصريين على وصف استقلال السودان عام (1956) بـ«الانفصال» دون تدقيق فى حمولات الأوصاف وتبعاتها، إذ قد ينظر إلى وصف الانفصال باعتباره إنكارا على السودانيين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم.
الأسوأ من ذلك ــ كما يلاحظ المستشار «طارق البشرى» – أنه «لم تكن للحركة الوطنية المصرية منذ مطلع القرن العشرين حركة وحدوية تستهدف توحيد مصر والسودان، لم يحاول حزب واحد أن يتكون على أساس جامع من مصريين وسودانيين، ولا حاول جادا أن ينشط بين السودانيين، كما ينشط بين المصريين، ولا أن يبنى تشكيله من أهل البلدين معا».
بتعبير الكاتب الصحافى الراحل «يوسف الشريف» فإن هناك أزمة معرفية بـ«السودان وأهله».
كل بلد محكوم بخبرة تاريخه والسجل السودانى حافل بانتفاضات حلقت وانقلابات تتابعت وحروب أهلية مزقت وصراعات على السلطة امتدت عبر العقود منذ استقلاله.
السودان يجد نفسه الآن معلقا بين إرث ماضٍ يطل عليه من جديد وتطلع لمستقبل لم تستبين كامل حقائق قوته.
فى المراوحة بين نظم حكم مدنية لم تستقر قواعدها ولا ترسخت أصولها الديمقراطية ولا أضفيت عليها نظرة حديثة ونظم عسكرية تعددت انقلاباتها فى أزمان مختلفة بتوجهات متناقضة وتكرر فشلها يتبدى حجم الأزمة السودانية منذ الاستقلال حتى الآن.
بالنظر إلى التاريخ السودانى فإن الانتفاضات تتبع الانقلابات.
لم يكن «الحراك» الذى زعزع لأربعة أشهر أركان حكم «عمر البشير» نبتا شيطانيا، فهو تعبير عن طاقة حيوية السودان وأهله بشبابه ونسائه ومهنييه بأكثر من أية قوة سياسية تقليدية، أو غير تقليدية.
قوة «الحراك» جاءت من خارج السياق، من الأقاليم قبل العاصمة، ومن الأنين الاجتماعى قبل النزوع السياسى.
بالوقت تبلورت قيادته فى «تجمع المهنيين» و«إعلان الحرية والتغيير».
أثناء الحراك الشعبى ضد حكم «عمر البشير» بادرت إثيوبيا بالحركة الدبلوماسية وأعمال الوساطة، حاورت القوى الحية المتحركة، استضافت تفاهماتها وأشرفت على الصيغة التى جرى التوافق عليها بين «قوى إعلان الحرية والتغيير» والمجلس العسكرى، فيما غابت مصر عن المشهد المتحرك بأحلامه ومخاوفه.
كان ذلك إضافة لا يستهان بها للدور الإثيوبى جرى توظيفه لمقتضيات المضى قدما فى بناء السد دون عناية بما يصدر من اعتراضات.
أسوأ ما يحدث الآن تعطل المرحلة الانتقالية عن استيفاء مؤسساتها ومهامها وما طرأ على قوى «إعلان الحرية والتغيير» رافعة الثورة من تفكك بانسحاب «تجمع المهنيين» منها.
الاقتراب من الملف السودانى بالمبادرة والوساطة الإيجابية من ضرورات تأسيس شراكة حقيقية فى أزمة السد الإثيوبى وفى أى تحديات أخرى.
بأى نظر جدى لموروث الأزمة السودانية فإن قضية الحرب والسلام استهلكت أعصاب وقدرات وموارد الدولة، قسمتها ومزقتها وأفقرت شعبها وأشاعت اليأس العام من أى إصلاح.
يكاد أن يكون مستحيلا التطلع إلى تحسين الأحوال المعيشية المتردية والخدمات العامة المنهارة دون وضع حد للحروب الداخلية.
هذا ملف آخر يستدعى دورا مصريا حيويا يساعد السودان على لملمة جراحه حتى يكون ممكنا أن يلعب دوره شريكا قويا فى حفظ حقوق دولتى المصب من مياه النيل.
لكل شراكة مصير أصولها وقواعدها ووسائلها.
هذا ما يتعين علينا أن ندركه هنا فى مصر.
نقلا عن "الشروق"