مذيعون وفئران!
دراسة عن تأثير الزحام فى زيادة معدلات العنف.. وضعوا عددا قليلا من الفئران داخل مكان متسع، اكتشفوا أنها عاشت فى وئام وسلام، وكل فأر لا يستطيع النوم قبل أن يطمئن أن جاره سعيد وأخذ وجبة عشائه بسلطاتها وبابا غنوجها، وبعد أن نامت الفئران الصغيرة، بدأ كل فأر فى مداعبة زوجته.
زاد عدد الفئران داخل نفس الحيز، فتضاءلت معدلات الود والحنية.. ضاعفوا العدد، فبدأ الاحتكاك وانتشر العنف الذى وصل إلى حدود الاقتتال والدموية.
ضِيق المكان يؤدى إلى التشابك.. هل من الممكن أن نجد مقابلا لذلك فيما يجرى فضائيا؟، نعم، هناك تلامس بين الدائرتين، إنه المكان الذى ضاق بعدما تجاوزنا رقم ألفين من الفضائيات الناطقة بالعربية، وأمامها فى العادة موضوعات وقضايا واحدة قُطريًا وعربيًا وعالميًا.. الحدث اليومى ثابت.. فى أحيان كثيرة تلمح الضيف وهو يتنقل من فضائية إلى أخرى، ويكرر المذيع نفس السؤال، ويرد الضيف بذات الإجابة التى صارت أقرب للوجبات الجاهزة، ولا يشغلون أنفسهم حتى بتحديثها أو تسخينها، يقدمونها كما هى من (الديب فريزر).
ومع هذا التشابه الممل، كان لابد من البحث عن اختلاف ما، مع الأسف وجدناه أشد ضراوة، حيث أصبح الموضوع المثير هو الهدف الأسمى، ولم يسلم الأمر والحال كذلك من تراشقات بين مذيعى الفضائيات، كل منهم يعتقد أن التخلص من الآخر الذى يقف فى نافذة الفضائية المقابلة هو الهدف.. كثيرا ما توعد بعضهم البعض بكشف المستور.
الصوت العالى الذى يصل إلى حالة التشنج تستطيع أن تعتبره ملمحًا ثابتًا، كل مذيع يعتقد- ولا أدرى لماذا- أنه يجب أن يتقمص دور صاحب الرأى العالم ببواطن الأمور، والذى يعرف كل الكواليس.. وسحقًا لكل نظريات الإعلام التى تُطالب المذيع بالحيدة والموضوعية، ينتاب أغلبهم إحساس يتنامى بأنه هو الذى يحرك الحياة ويغير الوزارات ويهد الحكومات، وأن الحياة تبدأ ببرنامجه وتنتهى إلى برنامجه.
ولا يتوقف الأمر عند مقدمى البرامج، بل تابع حالة الضيوف الذين أصابتهم العدوى فى التجاوزات اللفظية والحركية، يبدو الأمر وكأن هناك رهانا على زيادة مساحة الانفلات، وفى العادة تتحول الكلمة أو الحركة الخارجة إلى مادة على «اليوتيوب» تحقق أعلى درجات الانتشار.
من الذى يهيمن على تلك المنظومة برمتها؟.. إنه أنت عزيزى المشاهد، الكل يستغل اسمك، مؤكدا أنه يعبر عنك ويلبى احتياجاتك وطلباتك.. وكثير من البرامج التى تفتح باب الخير أمام المشاهد وتحل مشاكله هى فى الحقيقة تسعى لكى تستثمره فى تحقيق جماهيرية طاغية ولا يعنيها من قريب أو بعيد تقديم الحلول بقدر ما يصبح الهدف تحقيق الإثارة.
صرنا كأننا فى سوق شعبية والكل يعلى صوته وهو ينادى على بضاعته صارخًا: «قَرّب.. قَرّب».
ابحث عن الدافع الحقيقى، تكتشف أنه (تورتة) الإعلانات التى يلهثون وراءها، لم تعد مثل الماضى، تقلصت فى الحجم، وهذا لعب دوره أكثر فى زيادة حدة الصراع، وكالات الإعلان تلعب دور البطولة فى كل التفاصيل، هم يحددون أسعار المذيعين وأيضا يتدخلون فى اختيار أسماء النجوم فى الدراما، كثيرا ما تشعر أنهم فى لحظات يعيدون (تفنيط أوراق كوتشينة النجوم والمذيعين)، وبين الحين والآخر نجد اسمًا جديدًا يتم الدفع به، أو فى الحقيقة اللعب به.. وتزداد المعركة مع الزمن شراسة.. كلما ضاقت الرقعة واتسع عدد الفضائيات، العنف- مع الأسف- صار هو الحل فى شريعة الفئران ودنيا المذيعين!!.
[email protected]
نقلا عن "المصري اليوم"