كل الطرق تؤدى إلى الاستثمار
العالم مشغول بالتحديات الاقتصادية لمرحلة ما بعد «كورونا»: اضطراب فى سلاسل الإنتاج والنقل، وزيادة فى أسعار الطاقة والمواد الأولية، ونقص فى مستلزمات الإنتاج، وارتفاع متوقع فى الأسعار ومعها الفائدة، هذا بجانب التوترات السياسية والاجتماعية غير معروفة العواقب، وتحديات بيئية تناولتها القمة الدولية الأخيرة. كل هذا ولا نعلم إن كنا حقيقة فى مرحلة «ما بعد كورونا»، أم أنها هدنة مؤقتة تسبق موجات جديدة من التحورات والتوابع التى قد تعيدنا للوراء.
وبجانب هذه الأوضاع العالمية، فإن اقتصادنا الوطنى يواجه تحديات إضافية، على رأسها عجز الموازنة وارتفاع الدين العام، وانخفاض الإنتاجية، وضعف الاستثمار، وخطر التضخم، بجانب التحديات الاجتماعية والتنموية المعروفة.
هذه المقدمة الطويلة ليست من أجل الاكتفاء بترديد ما يعلمه كل متابع للشأن الاقتصادى، ولا لِبَثِّ القلق أو الإحباط فى النفوس. بالعكس فإن الغرض منها الوصول لنتيجة محددة، وهى أنه مهما «قلّبنا» الأمر من مختلف جوانبه، وطرحنا بدائل وسيناريوهات مختلفة، فإن الطرق كلها ستؤدى إلى ذات النتيجة.. وهى ضرورة زيادة الاستثمار الخاص بشكل كبير وسريع ومستمر.
كل الطرق تؤدى إلى هذه النتيجة الحتمية: لن ينصلح حال الموازنة العامة بترشيد الإنفاق، ولا بزيادة الحصيلة الضريبية، ولا حتى ببيع الأصول، ما لم تصاحب ذلك طفرة فى الاستثمار والإنتاج. ولن ينحسر الدين العام لمعدلات مقبولة وآمنة إلا بنمو الاقتصاد الوطنى بمختلف قطاعاته الإنتاجية. ولن يتحسن حال ميزان المدفوعات إلا بمزيد من التصدير والارتفاع بقيمة الإنتاج الوطنى نتيجة لاستثمار جديد. ولن تنخفض البطالة ومعها الفقر إلا بفرص عمل كثيرة ومجزية ومستدامة مصدرها الاستثمار الخاص. ولن تتوافر للدولة الموارد لاستكمال مشروعاتها التنموية الطموح- وعلى رأسها «حياة كريمة»- إلا بزيادة الحصيلة الضريبية لمشروعات ورؤوس أموال جديدة وناجحة ورابحة. ولن يتحقق السلم الاجتماعى والتنمية الاقتصادية إلا فى مناخ جاذب للاستثمار ومشجع على المخاطرة التجارية.
ولكن الواقع أننا فى الوقت الذى نحتاج فيه للاستثمار الخاص- الكبير والصغير والوطنى والأجنبى- احتياجًا صار وجوديًا، لانزال متوقفين عند البديهيات، ومكبلين بقيود تجاوزها العالم، ومحققين معدلات استثمار خاص فى السنوات الأخيرة (خاصة خارج قطاع البترول والغاز الطبيعى) أدنى حتى من معدلاتنا المتواضعة فى العقود السابقة.
هل المشكلة أن الظروف المصرية فريدة من نوعها؟ لا أظن ذلك، بل مصر لديها- حقيقةً وليس من باب الشعارات الوطنية- من الموارد والإمكانات والوضع السياسى والثقل الإنسانى والفرص السياحية والصناعية ما يميزها عن الآخرين. هل لأننا ننتهج منهجًا فكريًا يتعارض مع الاستثمار؟ لا يبدو أن هذا صحيح، لأن خطاب الدولة ومسؤوليها كله يتجه لتشجيع الاستثمار ولا يقدم طرحًا أيديولوجيًا مغايرًا. هل إذن الحلول غير معروفة وبانتظار من يأتى بأفكار لا سابق لها؟ بالتأكيد لا، بل المشاكل معروفة والحلول أيضًا.. تحديث النظام القانونى للاستثمار، وإطلاق يد الأجهزة المعنية بالترويج له، وتنظيم دور الدولة فى النشاط الاقتصادى (ولا أقول انسحابها لأن هذا تصور غير مطلوب وغير واقعى)، ومنح المستثمرين الطمأنينة والثقة فى استقرار القواعد، وتحديث آليات فض المنازعات، والحد من البيروقراطية، وغير ذلك من التوصيات التى امتلأت بها التقارير والدراسات من خبرائنا الوطنيين ومن الجهات الدولية.
ما الموضوع إذن، إن لم يكن أيديولوجيا مغايرة، ولا نقص إمكانات، ولا غياب الأفكار والحلول؟
لا أجد تفسيرًا لتأخرنا فى مجال الاستثمار إلا عدم وضوح الرؤية الحكومية الجمعية حول أهمية الموضوع، وغياب برنامج واحد للنهوض به، بل مسارات متنوعة واتجاهات متناقضة وتصريحات لا أشك فى صدقها وحسن نواياها، ولكن لا يقابلها واقع مقنع للمستثمرين.
ما سبق ربما يكون وصفًا شديد الاتساع وغير محدد. ولكن هدفى هنا- فى إطار المساحة المتاحة- دق ناقوس الخطر، والدعوة للارتفاع بقضية الاستثمار للمكانة والأولوية التى تستحقها، والتنبيه إلى أن تضحيات السنوات الماضية ستذهب هباء إن لم نحقق طفرة فى مجال الاستثمار، والعمل على اعتبار ذلك قضية حياة أو موت، ومحددًا أساسيًا لمستقبل الوطن.
هذه دعوة لفتح ملف الاستثمار بصدق وإخلاص، ولحشد كل الجهود وراءه، ولبدء حوار وطنى ليس عن البديهيات والتوصيات غير الخلافية، بل عن الآليات التنفيذية المطلوبة، والأولويات التى لا تحتمل انتظارًا، والأدوات الممكن تحقيق مكاسب عاجلة بها.. قبل فوات الأوان.
من جانبى، سوف أتناول الموضوع بمزيد من التفصيل فى مقالات لاحقة، وأدعو من يهمه الأمر للمشاركة فى هذا الحوار الوطنى.
نقلا عن "المصري اليوم"