سليمان اللِّبودي.. وقط الحراسة!
يُعاني (علاء) كثرةََ الفئران ببيته الجديد الأشبه هو، وعدة بيوت على مشارف القرية، بشعرات مُتناثرة في رأس رجل داهمه الصلعُ، فأضحي صفحة بيضاء كمرآة عاكسة.
أحاطتْ بتلك البيوت حظائرُ المواشي، والحقولُ، فصارت مأوي لهوام الأرض، والفئران كلما أرخى الليلُ سدوله، وهو ما أزعج علاء وأولاده، وقطعوا بأنَّ الحل يكمن في جلب هِرة، تكون خطَّ دفاعهم الأول أمام جحافل تلك الفئران السمان.
انتهز (علاءُ) فرصة زيارتي له، وناقشني في هذا الأمر الخطير، باعتباري خاله، وكبيرَ عائلته المستشارَ في كل صغيرة وكبيرة، وبينما كنا نتناقش سويا، قاطعتني ابنتُه عائشة ترجوني: " آه والنبي يا ددو" تقصد جدو.
ولا أُخفى أنني لا أقوى على رفضِ طلب لعائشة زهرةِ هذا البيت وريحانتِه، إذ إن هذه الطفلة - التي لم تتجاوز شبرًا ونصف الشبر مُتعددة المواهب، كثيرة المهام، ففضلًا عن مساعدتها أمها في تنظيف البيت، وغسل الأواني وأكواب الشاي، التي لا يمر يومٌ دون أن تكسر منها كوبًا أو اثنين، وهو ما جعل (نيش) أمها قاعا صفصفا- هي (الألفا) في مجموعات تحفيظ القرآن، التي تعقدُها أمها لأطفال الحي، فتخرج إليهم قبل أمها بدقائق، تراجع معهم عمل الواجب، وتسميع الماضي، وتحصيل العائد، وإذا صرختْ (جويرية) أختها الصغري، تُسرع لتلقمها (بزَّازة) الرضاع.
لهذه المهام، كان لها في قلبي وقلب أبيها حظوةٌ كبيرة، ولا نستطيع أن نرفض لها طلبا، لكن المشكلة: أيُّ قط يتصدى لهذه الفئران الضخمة والعديدة؟.
احترتُ أنا وعلاء، ووجدنا أن الحلَّ عند سليمان (اللبودي) هكذا يُلقَب، وسليمان شخصٌ(على باب الله)، ورغما عن ذلك، هو حرٌ عفيفُ النفس، لا يتطلع إلى ما في يد غيره، قانعٌ بما قَسَمَ الله له، شاكرٌ لأنعمه، كثيرا ما يُقبلُ يده (وجهًا وظهرًا) تعبيرًا عن الرضا.
في جلسةِ سمر جمعتنا بسليمان أمام استراحة (الملك) أحمد فاروق، يُغلفنا ظلامٌ دامس، كسرتْ حدتُه نجومٌ متناثرة في صفحة السماء، استأذناه في أن يجلب لنا قطة على الفور، وسيكون جزاؤه من علاء مقابل ذلك المعروف وفاقا، ولن يقل بحال عن (كيلو) من اللحم (الكندوز).
تهللتْ أساريرُ سليمان، وأسرنا بأن قطة الجيران ولدت مؤخرًا، وسينتهز فرصة غيابها عن أولادها ليجلب لنا إحدى صغارها، وصدق والله، إذ جاء إلى علاء في فجر أحد الأيام يمشي على استحياء، وبكمه قطة صغيرة لم تتفتح عيناها، وأوصاه بإطعامها (لبنا وفينو)؛ ليعوضها عن لبن الأم، التي كسر قلبها بسرقة صغيرها.
امتثل علاء للأمر، وجعل للقطة من مصروف بيته نصيبًا، وامرأته تعضُ الأنامل من الغيظ، وتتكلم بكلام لا يكاد يبين تعبيرًا عن الاعتراض، ولكن هيهات أمام قرار زوجها (سي السيد) !.
وزع علاء جهده بين صغيرته (جويرية) والقطة، فكان كحارس (نوبتجي)، إذا نامت جويرية داعب القطة، وإذا نامت القطة داعب جويرية، وهكذا دواليك!.
أيامٌ ونمت القطة، وتفتحت عيناها، وملأت البيت حركة وقفزًا ومواءً، يتزايد كلما قدم لعلاء ضيوف، فتقف على رجليها الخلفيتين، وترفع ذراعيها لمصافحتهم، وتطير كريشة في مهب الريح خلف الذباب والناموس، ولا تسقط لقمة أو ثمرة فاكهة من فوق طاولة الشاي إلا والتقمتها بفمها، فينتشي علاء، ويربت على ظهرها متفائلًا بأنها ستكون صيادًا ماهرًا، وهذا ما كنتُ أنكره وأستبعده تماما، إذ كانت قطة وديعة صغيرة الحجم، تصلح لأن تكون (دلَّاية) بميدالية، وليست قط حراسة.
وصدق حدسي والله، إذ كانت تصول وتجول داخل البيت، ولا تقوى أن تمد رجليها خارج بوابة المنزل، حيث يربض كلبُ الجيران باسطا ذراعيه، وكلما سمعت نُباحه، اربدت سحنتُها، ووقفتْ ترقبه من أسفل بوابة البيت، تُحاذر أن يراها، وإلا صارت في خبر كان.
وما إن يختفي نباحُ الكلب، حتى تمارس القفز والتنطيط والمواء، وتتعقب الأطفال فيمتلئ البيتُ ضجيجًا وصُراخًا، لسان حالها: (أسدٌ علي وفي الحروب نعامة).
شاهد علاءُ الموقف مرارًا عن كثب، فأقر بما تنبأتُ به، وحوقل بعدما بسمل عند قدومها، وقطع بأن حارسه المُنتظر بحاجة إلى حارس.