العمدة رفعت مدرسة قيم ومبادئ وأخلاق تجمع بين أصول الماضي والحاضر
مشهد خروجك من دار الدنيا إلى دار الآخرة كان مهيبًا، وحال لساني يقول والله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإن على فراقك يا عم رفعت لمحزونون، فوفاتك يا حبيبي لم تزلزل قلوب أقاربك أو أصدقائك أو محبيك أو معارفك فقط، لكنها زلزلت قلوب ووجدان الجميع في كل أنحاء مراكز محافظة سوهاج عموما، وجميع قرى دار السلام خصوصًا.
رجل يتسم بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة
تلقيت نبأ وفاة عمي العمدة رفعت عبدالرحيم أحمد عمران، كالصاعقة التي أحرقت القلب، وعطلت العقل وأثقلت ترِس عجلة التفكير، حتى توقف برهة ثم عاد ليعمل مرة ثانية، مسترجعًا شريط الذكريات، فقد كان العم العزيز يتسم بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة التي أرشد إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام وندب إليها، وهي من محاسن شريعة الإسلام، ومن مكارم الأخلاق، ومن الصفات الكريمة التي يحافظ عليها أهل الإيمان، ويسارع إليها أهل المروءة ومكارم الأخلاق.
فكان له عدة خصال الخصلة الأولى: حفظ اللسان عما لا ينبغي من السباب، والكذب، والغيبة، والنميمة، وسائر الأخلاق التي لا تنبغي، فكان يتبع قول النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، وأيضًا قول الله تعالى في كتابه العظيم: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.
ونُجمل باقي الخصال هنا فكانت الخصلة الثانية: إكرام الضيف، والثالثة: إكرام الجار والإحسان إليه وعدم إيذائه، والرابعة: صلة الرحم وإكرام القرابة، حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، وفي الحديث الصحيح يقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يدخل الجنة قاطع رحم، والله يقول سبحانه في كتابه الكريم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، فأمر سبحانه بالإحسان إلى ذوي القرابة.
من يعرف العم العزيز العمدة رفعت يعلم جيدًا ما أقوله والله على ما أقول شهيد، فهو «حبيبي عزيزي، سليم القلب، نقي، طيب، يكره الشر، يمشي في الخير، الشريك الخيّر في الرأي وفي كل شيئ، الناصح الأمين، القدوة، فكانت العيبة لا تعرف لها مكان عنده».
حينما دخلت عليه بعد مماته لرؤيته وجدته ممددا ومغطى مستريح الجسد، فكشفت الغطاء من على وجهه فسالت الدموع على وجنتي، وتحشرج الكلام في حلقي رافضا الخروج، حتى جف اللسان، وتلكأ الكلام، ومع النظر في وجهه البشوش وجسده القويم؛ الممدود وجدته ثابتا مثبتا.
نظرت له، وظللت أراقب عيناه المغلقتان، وشفتاه المضمومتان، وموضع حركات جسده عند التنفس، فكان عقلي الباطن يقول: «إنه سوف يعود ليتنفس مرة ثانية، وسيفتح شفتاه وعيناه، مرة أخرى، إنه نائم، انتظر قليلا، ركز، لا تغمض عيناك عنه، استمر في مراقبته، سيستيقظ بعد قليل»، ولكن لم يستمر الخيال طويلا حتى اصطدمت بالواقع، فالحقيقة إنه ميت، فطأطأت مقبلا جبهته، فوصفتها بقبلة الوداع وكانت هي تلك النظرة الأخيرة في وجه أحب الناس إلى قلبي، عمي وحبيبي، كما ودعه كل أقاربنا وأحبائه وأصدقائه الصادقين المخلصين.
عندما تبكي الرجال فاعلم أن هموهم فاقت قمم الجبال
لست مستوعبًا حتى هذه كتابة هذه السطور؛ وفاتك؛ رغم أنني مؤمن بأنه لا راد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره جل وعلا، وكما قال الله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، سبحانه.. فما رأيته في أصدقائه ومحبيه من إخلاص له، لم أراه من قبل في حياتي، فقد أثلج صدري، حينها علمت أن الرجال لا تبكي إلا على الرجال، وهذه أول مرة اشاهد فيها بكاء الرجال على الرجال، فتذكرت المقولة الشهيرة: «عندما تبكي الرجال فاعلم أن هموهم فاقت قمم الجبال».
ليس غريبا كل هذا الحزن والألم والحسرة التي شاهدتها في عيون كل المعزين، على رجل قلما يجود الزمان بمثله، رجل يصفه الجميع بأنه سفينة قيم ومبادئ وأخلاق تسير على الأرض، والمدرسة التي تجمع بين أصول الماضي والحاضر، فصيح اللسان، رجل مضياف كريم، حكيم، خير جليس، خير صديق، كل ذلك وأكثر ظهر جليا في عيون كل من حضر ديوان العائلة (آل عمران) في قرية بني خالد بأولاد يحيى بمركز دار السلام، سواء معزيا أو واقفا بجوارنا على مدار الأيام الثلاثة الماضية بعد وفاته، فأعلم أن شكري لهم لا يكفي، فإن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكورًا.
كان العم العزيز دائما يسعى في الخير والصلاح ما بين الناس، وأخبرنا جميعًا فضيلة الشيخ الجليل إبراهيم ابوالباشا، أحد مشايخنا الأجلاء وعلم من أعلام مركز دار السلام، بارك الله له في صحته وأطال في عمره، بسعي الراحل العزيز قبل وفاته بأيام قليلة في الخير حتى حالفه التوفيق من عند الله في تصالح طائفتان متخاصمتان في قريتنا بعد انقطاع دام بينهما 7 سنوات.
في حياة عمي دروس وعبر كثيرة تعلمنا منها الكثير والكثير، إذا تحدثت عنها فلا يسعني هذا المقام، فالحديث عنه تسطر في مجلدات، يعلم ذلك كل من عرف هذا الرجل (القيمة، والقامة، القدوة)، فعنوان: حكايات الصديق المخلص والأصدقاء المخلصين فقط لا يكفيها كُتيب واحد تدون فيه، فقد سار على مبدأ: «خذ من كل بلد صاحب» ومشى حتى ارتسمت قدماه على أرض كل قرى دار السلام بسوهاج، فقد عرّفنا بأخيار الناس وشاهدنا محبته في عيونهم وعيون كل من واسانا في مصابنا الجلل.. فنحن نعلم قيمته قبل وفاته ولكن شاهدها الجميع باعينهم عند مماته، فقد سار خلف جنازته ونعاه علية الأقوام، وأعيان البلاد.
كان قد طلب قبل وفاته بيوم من شباب العائلة بالاستعداد للذهاب معه إلى جيرانًا (اللقاء محدد في اليوم الذي توفى فيه) لإنهاء سوء تفاهم، من أجل تقريب الشباب من بعضهم البعض، وجمعهم ووضع أيدي بعضهم بعضا، ولم شملهم مرة ثانية، وحثهم على التمسك ببعضهم وعدم السماح بالفرقة والخصام فيما بينهم، والكل يعلم ذلك.. لكن إرادة الله نافذة ورحمته وسعت كل شيئ.
ختامًا، فإن نقاء القلوب من أسباب النجاة يوم القيامة.. ويقول الله تعالى في كتابه العزيز: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، إذن فالقلب السليم سبب كافي للنجاة، في حين أن هناك إناس أعمالها كالجبال يجعلها الله هباءًا منثورًا، وذلك بسبب فساد الصدور وفساد النوايا، وفي المقابل هناك إناس تدخل الجنة بنقاء قلوبها والعمل الصالح.. في الجنة ونعيمها يا عمي.