رئيس التحرير
خالد مهران

أحمد شيخو يكتب: تكامل ميزوبوتاميا والأناضول.. العلاقة الكردية_التركية

أحمد شيخو
أحمد شيخو

يعد عصر الخلافة العباسية من العصور التي شهدت قدوم الأتراك من آواسط آسيا وبشكل ملحوظ إلى ساحة الشرق الأوسط، وخاصة في القرن العاشر، ولكن نظرا لطبيعتهم الباحثة عن السلطة والمزاحمة لم يتمكنوا من العيش في المناطق الفارسية أو العربية، ولذلك اختاروا الذهاب إلى ميزوبوتاميا العليا (كردستان) والاتفاق مع الشعب الكردي الذي كان يعاني من ممارسات الروم والبيزنطيين عهود طويلة.

وهكذا تلاقت مصالح الكرد والترك تحت سقف الإسلام، ممثلين بالسلطنة المروانية الكردية، التي كانت تتّخذ من ميافارقين (سيلوان) مركزًا لها قرب آمد (ديار بكر) الحالية وبين السلطان ألب أرسلان من أسرة الأوغوز السلجوقية، والحائز على لقب السلطان من الخليفة العباسي، في الاتفاق الاستراتيجي والذهاب إلى معركة ملازكرد 1071م التاريخية التي شارك فيها الكرد والترك جنبًا إلى جنب بعد اتفاق استراتيجي لدحر خطر وتهديد البيزنطينيين وفتح أماكن مناسبة لعيش الترك وهي مناطق الأناضول.

معادلة العلاقة والتحالف الكردي والتركي في العصور الإسلامية

وعليه حصلت المعادلة التالية: أن الترك والكرد أو أن ميزوبوتاميا والأناضول أصبحوا في معادلة واحدة، بحيث أصبح الاستقرار والأمن بينهما مترابطين ولا يمكن تحقيقهما إلا معًا. كذلك، لا يمكن أن تكون هناك انتصارات ونجاحات إلا معًا، وسيسري هذا المنطق على الدوام في عهد السلالة الأيوبية الكردية والعديد من إمارات الأناضول، وفي عهد العثمانيين أيضًا. ولو عدنا للتاريخ، فسنرى أنّ استراتيجية شبيهة بهذه ما برحت قائمة بين القوى القاطنة في بلاد الأناضول وميزوبوتاميا منذ أيام العلاقات الحثية–الميتانية (أعوام 1600 ق.م). حيث سيعاش هذا التداخل، سواء شعبًا وقوى مدنية، أم على صعيد قوى السلطة. وستظلّ استراتيجية الدفاع المشترك هذه قيد العمل، ليس تجاه الهجمات الآتية من الغرب فحسب، بل وتجاه تلك الآتية من الشرق والجنوب أيضًا.

التحالف العثماني الكردي في الحروب الكبرى

فقد استطاع السلطان العثمانيّ سليم الأول إيقاف توسع إمبراطورية السلالة الصفوية الإيرانية بمنظور مثيل من التحالف، هذا وسدّ الطريق أولًا أمام غارات سلطنة المماليك المصرية المركز والآتية من الجنوب، ثم قوّضت عن بكرة أبيها في نفس الفترة (1514–1517م) بالتحالف المبرم بزعامة إدريس البدليسيّ. وستسري الاستراتيجية عينها خلال حرب التحرير في عشرينيات القرن العشرين.

وفي معركة جالديران الدائرة عام 1514م ضد توسع إمبراطورية السلالة الصفوية الإيرانية، كانت قوات الإمارات والقبائل الكردية تزيد عددًا على الانكشاريين الموجودين في جيش السلطان ياووز سليم. وقد توّجت المعركة بالنصر جغرافيًا وعسكريًا بناء على التحالف العثمانيّ–الكرديّ (البروتوكول الموقّع بين السلطان ياووز سليم وثمانية وعشرين بيكا كرديًا في أماسيا). وإذا وضع نفوذ المماليك في أورفا وماردين نصب العين، فسيلاحظ أنّ معركة مرج دابق (بالقرب من حلب شمالي سوريا) أيضًا تتسم بطابع مشابه. أما الإشارة إلى أنّ الدور الذي أدته كلتا المعركتين كان مهمًا على الصعيد الاستراتيجي من ناحية وجود الكرد واستقلالهم، فهو أمر واقعيّ وضروريّ إلى أبعد حدّ.

الاستراتيجية المشتركة: تعزيز الأمن والاستقرار بين الأناضول وميزوبوتاميا 

ومكسب الأتراك من هذه الحروب هو أنهم حصلوا وبشكل دائم على موطن يأويهم في بلاد الأناضول، وما كان لهم أن يحظوا به لولا الكرد. من هنا، لا يمكن تدوين تاريخ وجود كلا المجتمعين بشكل صحيح ما لم تستوعب ماهية العلاقات التي عقدها الكرد مع الأقوام والإمارات والسلطنات والأنساب التركية بمنوال سليم. ينبغي الفهم جيدًا أنّ الكرد لم يقبلوا بهذه الاستراتيجية في علاقاتهم مع الأتراك كي يتعرض وجودهم إلى الخطر بالعنف العسكري أو بالانصهار في بوتقتهم، بل لكي يحافظوا على وجودهم وينمّوه معًا بنحو أقوى.

خيانة الدولة العثمانية والتغيرات السياسية

نفس المنطق الاستراتيجي يسري أيضًا على الأتراك المالكين لذهنية ذات عمق تاريخيّ ملحوظ. أما "الفاشية التركية البيضاء" التي تعني في نفس الوقت العمالة الموضوعية للغرب والرأسمالية المهيمنة النهابة، فما يتخفى وراء موقفها خلال القرن الأخير في إنكار هذا المنطق الاستراتيجي والسريان التاريخي، هو النوايا والممارسات التآمرية المغرضة بحقّ كلتا الثقافتين الاجتماعيتين. ذلك أنّ فرض الإنكار والصهر والذوبان وارتكاب الإبادة والتطهير الجماعي بحق الكرد العاملين أساسًا بتلك العلاقات التي ظلّت تتميز بجوهرها المذكور منذ بدايات فترات إبرامها، إنما يعني الخيانة الكبرى بحقّ كلتا الثقافتين الاجتماعيتين، وسيفضي إلى خسرانهما معًا.

سقوط الاتفاقات بين الكرد والترك في العصر الحديث

وقد طمس التاريخ الشوفينيّ والمصطنع من قبل التركياتية الفاشية هذه الحقائق وحجبها. لذا، فالأصحّ هو النظر إلى الحروب الدائرة في أراضي كردستان في عهد السلالات السلجوقية والأيوبية والعثمانية على أنها حروب غالبًا ما خاضها الكرد ضد قوى الاحتلال.

أما بداية الانحراف فكانت في خيانة بعض السلطات والسلطنات السلجوقية والعثمانية للقادة والسلطات الكردية وممالكهم وإماراتهم، ولكنها لم تكن كلية لأسباب عديدة. أما الإشكالية الكبيرة فقد حصلت منذ عام 1830 بعد تراجع العثمانيين في أقاليم عديدة وبحثهم عن القوة والتمكين، ولصمود وبالمشاورة والاسترشاد الألماني حينها والتي بدأت بنصح السلاطين والدولة العثمانية بالتخلص من النظام اللامركزي في الجيش والإدارة وإنهاء امتيازات المجتمعات والقبائل الكردية. ورغم ذلك، ظلت العلاقة التاريخية قائمة بين الشعبين.

خيانة الاتفاقات: من حرب الاستقلال إلى اتفاق لوزان

هذا وتندرج حرب التحرير الوطنية التي جمعت بين ميزوبوتاميا والأناضول خلال أعوام 1920 و1922م ضمن هذه اللائحة أيضًا. حيث اتفق الضابط العثماني، مصطفى كمال مع 32 رئيسًا أو بيكا للعشائر الكردية وفق اللقاءات والاتفاقات في أرزروم وأماسيا عام 1919م، على خوض حرب الاستقلال وبناء دولة للشعبين الكردي والتركي، والذي اقتضى تشكيل البرلمان الكبير بنسبة 33% ممثلين ومندوبين عن المناطق الكردية (كردستان) والدستور الذي أعطى المناطق الكردية الحكم الذاتي المؤرخ في 10 شباط عام 1920م. لكن الكارثة الكبرى حصلت مع ذهاب مصطفى كمال وعبر اليهود الذين كانوا في البيروقراطية العثمانية إلى الاتفاق مع الإنكليز والفرنسيين على اتفاق لوزان 1923م، والتخلي عن كل اتفاقات وتعهدات حرب الاستقلال مع الكرد.

الثورات الكردية في مواجهة سياسة الإبادة

عليه تم حل البرلمان والدستور الأول واختيار برلمان من دون الكرد ودستور يقول في بدايته على إنكار الكرد وهويتهم والقول أن الجميع ترك، بل إعدام ممثلي الشعب الكردي الذين حضروا البرلمان الأول كخونة للدولة التركية القومية التي بدأت تتشكل وفق لوزان والسياق الدولي الذي أراد فرض نموذج الدولة القومية ذات اللون الواحد كأحد أهم أدوات النظام العالمي المهيمن في الشرق الأوسط والعالم لتحقيق الهيمنة والنهب. وبدأت حينها وإلى اليوم سياسة الإبادة الجماعية بحق الشعب الكردي وثقافته وكل ما يمت للكردياتية وفق خطط وقوانين ممنهجة ومشرعة من الدولة القومية التركية ومؤسساتها.

وعندها تيقن الشعب الكردي للخيانة التي تمت فرفضوا هذا الواقع وقاموا بحوالي عشرين ثورة من عام 1925 حتى عام 1940 ولكن جميع الثورات كانت تفشل لأسباب مختلفة منها استعمال الأتراك للدين الإسلامي وبعض الشيوخ الذين كانوا يوالون السلطة على حساب مصالح شعبهم. وكذلك كانت بريطانيا سببًا في فشل تلك الثورات، حيث كانت تدعمها في البداية ثم تتواصل مع الأتراك وتحصل منهم على تنازلات مقابل أن تتخلى عن مساعدة الكرد.

تجدد إرادة الحرية لدى الكرد

وظن الساسة الأتراك والدولة التركية أنهم وعبر المجازر وسياسات الإبادة قضوا على الشعب الكردي وجعلوه شعبًا تركيًا، ولكن بعد عام 1973 ومن خلال مجموعة من الطلبة الجامعيين الكرد والترك، عبرت إرادة الشعب الكردي عن نفسها وعن رغبتها في الحرية والديمقراطية والأخوة بين الشعبين، وتشكلت مجموعة الطلبة الأبوجيين نسبة للقائد آبو(عبدالله أوجلان)، ثم بعد سنوات تحولت المجموعة الشبابية إلى حزب سياسي باسم حزب العمال الكردستاني في عام 1978، ثم في عام 1984 بدأ الكفاح المسلح والدفاع المشروع لأجل الحفاظ على الوجود وتحقيق الحرية.

الإزدواجية الدولية تجاه القضية الكردية
ومن المهم الإشارة إلى المواقف الدولية التي لم تكن في كل مراحل النضال الكردي لصالح الشعب الكردي وحقوقه الطبيعية، بل كانت ومازالت لصالح الدولة التركية. بل إنها كانت أحيانًا تمنع بعض الساسة الأتراك من اتخاذ أي خطوات للحل السياسي، كما حصل مع الرئيس أوزال ورئيس الوزراء نجم الدين أربكان وغيرهم. فالقوى الدولية هي التي تسببت في القضية الكردية في العصر الحديث، وهي التي تريد استمرار وجود بؤر توتر جاهزة، وتناقضات وحروب لا تنتهي حتى تمارس سياساتها وأجندتها. واعتقال القائد أوجلان بمؤامرة دولية، وعدم وجود مواقف دولية تجاه استمرار تعرض الكرد للإبادة، يبين بشكل واضح هذه الإزدواجية والنفاق.

الطريق إلى السلام والحل: مشروع الأمة الديمقراطية 

ورغم أن الجانب الكردي قدم أكثر من 9 مرات مبادرات للحل الديمقراطي وأوقف القتال، إلا أن الجانب التركي ودولة العميقة كانت تنحاز للحرب والعنف واستعمال الخيار العسكري، ومازال. ومع تطورات الأخيرة في المشهد الإقليمي، واحتمالات وتأكيدات العمل من قبل القوى المركزية في النظام العالمي لترتيبات جديدة، تشعر تركيا بخوف وقلق كبير، وحيث أنه ليس من الخطأ القول أن ظروف وشروط تركيا ومحيطها والمنطقة تشبه ظروف انهيار الإمبراطورية العثمانية، ولذلك رأينا مقاربات جديدة للدولة والساسة الأتراك لم تتضح معالمها بعد. ورغم تكرارهم الكلام الذي كان بين الكرد والترك في حرب الاستقلال، لكن كرد اليوم مختلفون ولديهم وعي سياسي متقدم وقيادة سياسية وقوة عسكرية كبيرة يحسب الجميع لها الحساب ويحاولون استمالتهم.

ربما يكون الهدف التركي من التحركات الأخيرة وبعض التصريحات هو لأجل الخداع ومحاولات المرور بأقل الخسائر وبسلامة من المرحلة الحالية، ولكننا نعتقد أنه عندها سوف تخسر تركيا كما خسرت العثمانية، فليس أمامهم إلا أن يكونوا بذات الاتفاق التاريخي والاعتراف والاحترام المتبادل والالتزام بالتقاليد الديمقراطية وبأخوة الشعبين وأمن المنطقتين ميزوبوتاميا والأناضول، وهذا يمكن تحقيقه عبر الحوار والإطار السياسي والقانوني والمشروع والطرح الذي يقدمه القائد أوجلان وهو الأمة الديمقراطية القائمة على الذهنية المشتركة والإرادة الحرة المشتركة والمتجاوزة لحالة اللون الواحد إلى بناء نظام ديمقراطي لامركزي يستوعب كل الاختلافات والألوان الموجودة في إطار وحدة البلاد وحماية سيادتها ووحدتها الترابية والشعبية، مع صيانة حقوق المكونات في إدارة وحماية نفسها وفق دساتير ديمقراطية تبني بلدان قوية وقادرة على تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية.