رئيس التحرير
خالد مهران

من الفيوم إلى الأسواق..

كواليس العالم السرى لاستيراد المتفجرات من الخارج وتصنيع الألعاب النارية والصواريخ

صناعة الألعاب النارية
صناعة الألعاب النارية

منذ عدة سنوات، دخلتُ صدفةً إلى أحد مخازن تجارة الألعاب النارية في قلب منطقة سكنية مزدحمة، لم يكن الوصول إلى المكان سهلًا، بل تم عبر صديق مشترك بيني وبين أحد تجار «الصواريخ».

الجو داخل المخزن كان مشحونًا بالتوتر والترقب، وكأنني على وشك شراء مادة محظورة، رغم أن الحملات الأمنية لم تكن وقتها تستهدف هذه التجارة بشكل واضح.

داخل غرفة صغيرة أسفل سلم عمارة مأهولة بالسكان، كانت تُخزن كميات هائلة من الألعاب النارية بمختلف أنواعها؛ من الشماريخ إلى الصواريخ والبُمب، بعضها للزبائن العاديين، فيما المخزون الأكبر كان مخصصًا للبيع بالجملة في مخزن سري آخر لم أتمكن من الوصول إليه لاحقًا بعد أن غيّر التاجر مكانه واختفى عن الأنظار.

محاولات الأمن لمكافحة الظاهرة

رغم انتشار تجارة الألعاب النارية لفترة طويلة، إلا أن الأجهزة الأمنية كثّفت حملاتها في السنوات الأخيرة، ونجحت في ضبط كميات ضخمة من هذه المواد الخطرة.

ففي الأيام الماضية، قامت قوات الأمن من ضبط ورشة لتصنيع الألعاب النارية بمحافظة الفيوم، حيث استغل شخص قطعة أرض مجاورة لمنزله لتصنيع وتخزين الألعاب النارية، ليتم ضبطه ومعه 3.1 مليون قطعة، إلى جانب أدوات وخامات التصنيع، وخلال التحقيقات، اعترف المتهم بإدارة الورشة وتصنيع الألعاب النارية دون ترخيص، بهدف تحقيق أرباح غير مشروعة، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقه.

أما في إبريل 2020، فقد أحبطت شرطة ميناء الإسكندرية البحري واحدة من أكبر عمليات التهريب، بعد اكتشاف محاولة إدخال 20 مليون عبوة من الألعاب النارية والشماريخ داخل شحنة مستوردة، كانت مخبأة ضمن حاوية تحمل أوراق "دوبلكس"، وبلغ الوزن الإجمالي للمضبوطات 22 طنًا، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضد الشركة المستوردة.

حوادث خطيرة بسبب الألعاب النارية

وتسببت الألعاب النارية في كوارث إنسانية، حيث كشفت تقارير عن وصول عدد من الإصابات بسبب الصواريخ إلى مستشفى سوهاج الجامعي، خلال الايام الماضية، حيث تم استقبال 4 حالات، من بينها 3 حالات انفجار مقلة العين، وحالة أصيبت بحروق في أصابع اليد.

وفي الإسماعيلية، شهدت إحدى الأسر مأساة حقيقية في أول أيام رمضان، بعدما اشتعلت شقتهم بالكامل بسبب صاروخ ألعاب نارية سقط بجوار خط الغاز في المطبخ، مما أدى إلى وفاة فتاة عمرها 17 عامًا وإصابة جميع أفراد العائلة بحروق خطيرة.

أما في القليوبية، تلقى قسم شرطة أول بنها بلاغًا من مواطن تضرر من احتراق سيارته بالكامل بسبب لهو أحد جيرانه بالألعاب النارية من شرفة منزله، وسقوط إحداها على المركبة.

الصواريخ الكريزي

في هذا الصدد، قال أحد تجار الألعاب النارية  الذي فضّل عدم كشف هويته، إن تجارة الصواريخ تشهد إقبالًا واسعًا، لكنها تواجه تحديات كبيرة بسبب بعض الأنواع الخطرة، مثل صواريخ «الكريزي»، التي تُصنع محليًا ويصل سعر الواحد منها إلى 30 جنيهًا.

وأضاف -في تصريحات خاصة «النبأ»-: «التجار البسطاء، الذين يعتمدون على هذه التجارة لكسب رزقهم، يرفضون بيع صواريخ الكريزي؛ لأنها تتسبب في مشاكل أمنية، وتجلب الحملات الشرطية على الجميع».

وأوضح أن هذه التجارة تعتمد على علاقات الثقة والمعرفة، حيث يتم التوريد من مصانع غير معلنة، خاصة في المناطق الجبلية بمحافظة الفيوم، التي تُعرف بكونها مركزًا رئيسيًا لتصنيع الألعاب النارية، وهي مهنة متوارثة بين الأجيال منذ أيام تصنيع «البُمب».

وأضاف أن هامش الربح يصل إلى 10٪، لكنه أكد أن العمل في هذه التجارة موسمي، مما يدفع العديد من النساء وكبار السن إلى استغلاله كمصدر رزق مؤقت.

وأشار إلى أن هذه التجارة تحمل مخاطر كبيرة بسبب احتمالية نشوب حرائق في أي وقت، لكنه أوضح أنها تظل مصدر رزق أساسيًا خلال شهر رمضان، قائلًا: «أي شخص لديه 500 جنيه يمكنه شراء عدة علب من الصواريخ وبيعها، ثم إعادة الشراء مرة أخرى، وقد تتحول الـ500 جنيه إلى 5000 جنيه بنهاية الشهر».

وحول الحملات الأمنية، أوضح أن الشرطة تكثف جهودها عند وقوع أي حوادث، مثل قيام أحد الأشخاص بإلقاء صاروخ على آخر، مما يؤدي إلى تشديد الرقابة الأمنية، أو عند نشوب خلافات بين التجار تدفع أحدهم للإبلاغ عن الآخر.

وأكد أن الصواريخ التي كان يبيعها آمنة وغير مؤذية، مضيفًا: «نحن كنا نستخدمها بأيدينا، ولو كانت خطيرة مكناش تجارنا فيها»، لكنه شدد على أن مصانع صواريخ «الكريزي» تمثل خطرًا كبيرًا، حيث تنفجر في صانعيها وتؤدي إلى وفاتهم داخل المصانع.

وأضاف: «في الفيوم، هناك العديد من المصانع التي تعمل في هذه التجارة، وأغلب سكان المنطقة يعتمدون عليها كمصدر رزق وحيد. وعند القبض على أي شخص منهم، فإنه يدفع كفالة تصل إلى 50 ألف جنيه للخروج».

واختتم حديثه قائلًا: «رغم المخاطر والصعوبات، إلا أن أصحاب هذه المصانع والتجارة بسطاء  يسعون  لكسب قوت يومهم».

مادة من مخلفات الحروب

وفي السياق ذاته، أكد الخبير الأمني اللواء محمد نور الدين، مساعد، وزير الداخلية الأسبق، أن الألعاب النارية تنتشر في الأسواق بطريقتين: إما عن طريق التصنيع المحلي، أو عبر التهريب من الخارج.

وأوضح -في تصريحات خاصة لـ«النبأ»- أن التصنيع المحلي يتركز بشكل أساسي في محافظة الفيوم، حيث يتم استخراج مادة «TNT» من مخلفات الحروب غير المنفجرة، واستخدامها في صناعة «البُمب» والصواريخ بطرق بدائية، مما يشكل خطورة كبيرة على القائمين على التصنيع، إذ تؤدي هذه العمليات أحيانًا إلى انفجارات مميتة بسبب قلة الخبرة.

وأضاف أن هذه المنتجات تُغرق أسواق الموسكي والغورية قبل شهر رمضان والأعياد، حيث يتم نقلها إلى الأقاليم وصعيد مصر لتوزيعها على نطاق واسع.

وأشار «نورالدين»، إلى أن الأجهزة الأمنية كانت تكثف جهودها لمواجهة هذه الظاهرة، حيث يتم نصب كمائن ثابتة ومتحركة على الطرق، خاصة عند الكيلو 4 ونصف بطريق «مصر-الفيوم»، قبل شهر رمضان بشهرين، لاعتراض الشحنات المهربة من الألعاب النارية قبل دخولها الأسواق، في ظل زيادة الطلب عليها خلال هذه الفترة.

أما التهريب، فأوضح أنه يتم من خلال حاويات قادمة من الخارج، حيث يقوم بعض رجال الأعمال أصحاب رؤوس الأموال الكبرى بإدخال المواد الخام المستخدمة في تصنيع الألعاب النارية ضمن حاويات ضخمة تحتوي على بضائع أخرى بهدف التمويه، وتحقيق أرباح قد توازي مكاسب صناعاتهم الأصلية.

وأضاف أن الأجهزة الأمنية تعتمد على عدة وسائل لكشف عمليات التهريب، من بينها الاشتباه في بعض الشحنات بناءً على معلومات وتحريات مسبقة، أو من خلال بلاغات تصل إلى الأجهزة المختصة، سواء من مصادر سرية أو أفراد داخل الموانئ والمنافذ الجمركية، إضافة إلى إجراءات التفتيش العشوائي للحاويات القادمة من دول يُعرف عنها تصدير المواد الخام الخاصة بالألعاب النارية وعن طريق الأجهزة الإلكترونية الحديثة للكشف المتفجرات.

وأكد أن المهربين يبتكرون دائمًا أساليب جديدة للتمويه، مما يجعل الأمر أشبه بلعبة «القط والفأر» بين الأجهزة الأمنية والمهرّبين مما يتسبب في تسرب بعض الحاويات.

وأشار «نور الدين»، إلى أن تجارة الألعاب النارية تحقق مكاسب تفوق تجارة المخدرات، إذ تصل الأرباح إلى أكثر من 1000٪، وأحيانًا تتجاوز 10،000٪، مما يجعل المهربين يغامرون رغم العقوبات، التي تقتصر غالبًا على مصادرة البضائع وإعدامها، إضافة إلى غرامات مالية، في حين أنهم يكونون قد حققوا أضعاف قيمة هذه الغرامات قبل الضبط، مما يشجعهم على الاستمرار في النشاط.

وحذّر من خطورة استخدام الألعاب النارية في أعمال إرهابية، موضحًا أن خطورتها لا تقتصر على كونها وسيلة لهو، بل قد تتحول إلى أدوات قاتلة، حيث إن عشر "بُمبات" فقط، إذا تم تجميعها وتفجيرها بالقرب من شخص ما، قد تتسبب في إصابته بجروح خطيرة.

وشدد على أن وزارة الداخلية تولي أهمية خاصة لمكافحة هذه الظاهرة، عبر إدارات البحث الجنائي، والأمن العام، وأقسام الشرطة، حيث يتم تكثيف الحملات قبل شهر رمضان والأعياد، نظرًا لارتفاع معدلات التهريب والتصنيع غير المشروع في هذه الفترات، بينما تقل هذه الجرائم بشكل ملحوظ خلال باقي العام.

العقوبة تصل للإعدام

وفي السياق ذاته، قال المحامي والخبير القانوني محمد رجب، إن القانون المصري يتعامل بحزم مع تصنيع أو حيازة أو تداول الألعاب النارية دون ترخيص، نظرًا لما تشكله من خطر على الأمن العام.

وأوضح -في تصريحات خاصة لـ«النبأ»- أن المادة 102 (أ) من قانون العقوبات المصري تنص على معاقبة من يحوز أو يستورد أو يصنع مفرقعات أو مواد متفجرة دون تصريح بالسجن المؤبد، وتصل العقوبة إلى الإعدام إذا ارتُكبت الجريمة لتحقيق غرض إرهابي.

وأضاف أن قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 شدد العقوبات على استخدام الألعاب النارية في أعمال الشغب أو الإخلال بالأمن العام، بينما يحظر قانون الأسلحة والذخائر (رقم 394 لسنة 1954 والمعدل بالقانون رقم 5 لسنة 2019) تصنيع أو استيراد أو حيازة الألعاب النارية دون تصريح، نظرًا لخطورتها على السلامة العامة.

وأشار الخبير القانوني، إلى أن وزارة الداخلية تفرض رقابة مشددة على عمليات استيراد وتصنيع الألعاب النارية، وتنفذ حملات أمنية مستمرة لمصادرة الكميات غير القانونية، مع إحالة المخالفين إلى النيابة العامة.

واختتم «رجب» تصريحه بالتأكيد على أهمية دور المجتمع في مواجهة هذه الظاهرة، مشددًا على ضرورة توعية الأسر بمخاطر الألعاب النارية ومراقبة سلوكيات أبنائهم حفاظًا على سلامتهم وسلامة الآخرين.

تجارتها حرام شرعا

وحسمت دار الإفتاء الجدل حول حكم بيع واستعمال الألعاب النارية، قائلة إنه حرام شرعًا استعمال الأفراد المفرقعات والألعاب النارية، لأنها وسيلة لإصابة النفس والآخرين بالأذى النفسي والجسدي والمالي، فهي تؤدي إلى نشر الذعر والضجيج وإزعاج مستحقي الرعاية من الأطفال والمسنين.

وأوضحت «الإفتاء»، أن ضرر المفرقعات يصل إلى إحداث تلفٍ في الأبدان والأعيان، مثل حوادث الحرائق في الأماكن العامة والخاصة، وإصابة مستعملها والمارين بالحروق والجراحات، وغيرها من الأذى وأنواع الإصابات، فضلًا عن كونها إهدارًا للأموال فيما لا نفع فيه.

وأكدت أنه يحرم شرعًا المتاجرة في المفرقعات والألعاب النارية، باعتبارها إعانة على الحرام، ومتنافية مع تعاليم الإسلام السمحة، التي تدعو إلى رعاية حقوق الناس في السلم والأمن على أنفسهم وأموالهم، وحقهم في الطمأنينة وتأمين روعاتهم.

اللواء محمد نور الدين مساعد وزير الداخلية الأسبق

570

الخبير القانوني محمد رجب

569