مهندسونا فى الجنة ومهندسوهم فى النار
لفترة طويلة حيرت الباحثين العلاقة المفترضة بين
الإرهاب والتطرف من جهة، ودراسة الهندسة من جهة أخرى.
الأمثلة عديدة: خالد شيخ محمد، العقل المدبر لأحد
9/11، حاصل على شهادة البكالوريوس فى الهندسة الميكانيكية من جامعة أمريكية. سيف الدين
رزقى، الذى قتل 38 شخصًا على شاطئ سوسة فى تونس فى صيف عام 2005، كان طالبا بكلية الهندسة
الكهربائية فى إحدى الجامعات المحلية.
والمسألة تتجاوز الأمثلة إلى واقع الأرقام. من بين
25 فردًا تورطوا مباشرة فى هجمات 11/9، درس ثمانية منهم الهندسة.
وقد جاء كتاب «مهندسو الإرهاب» ليحسم هذه الافتراضات
بإحصاءات موثقة تحسم الافتراضات وتؤكدها.
وقد أوضح مؤلفا الكتاب دييجو جامبيتا وستيفان هيرتوج،
أن النسبة الأكبر هى للمهندسين بين من ارتادوا الجامعة من المتطرفين، فى كل مكان تقريبًا
فى جميع أنحاء العالم وفى كل جماعة جهادية.
ومن بين عينة من 207 أشخاص من المتطرفين الإسلاميين
فى العالم الإسلامى، وجدا أن 93 منهم درسوا الهندسة (بنسبة 45 بالمائة تقريبا) بما
يزيد على أربعة أضعاف نسبة دارسى الهندسة المعتادة بين السكان فى بلدانهم.
ويكشف الكتاب العلاقة نفسها تقريبا بين دراسة الهندسة
والمتطرفين، بالنظر إلى أعداد المتطرفين من خارج العالم الإسلامى أو حتى من الدول الغربية
رغم اختلاف الأرقام والنسب.
لماذا الهندسة؟ هذا هو السؤال المحير الذى حاول
كثيرون الإجابة عنه. كثير من الإجابات يتمحور حول افتراض الإحباط نتيجة عدم القدرة
على تحقيق نجاح أو دخل يكافئ المتوقع والمرتقب من هذه الدراسة الشاقة.
ويربط الباحثان بين الاقتصاد وتراجع مؤشراته وبين
انتشار التطرف، ويدعم هذا التصور فيما يتعلق بالمهندسين أن المملكة العربية السعودية
هى البلد المسلم الوحيد الذى ظهر فيه عدد قليل من المهندسين بين صفوف المتطرفين. وهو
ما يفسرانه باعتباره استثناء يؤكد القاعدة، لأن المهندسين فى المملكة يختلفون عن خريجى
العلوم الاجتماعية، ويتمتعون بفرص ممتازة فى سوق العمل بفضل قطاعات النفط والغاز والصناعات
الثقيلة فى البلاد.
إلا أن الشواهد عديدة على أن الفقر والعوز مطلقا
كان أو نسبيا لا يفسر وحده إقبال دارسى الهندسة على الانضمام لجماعات التطرف. كبار
«مهندسى الإرهاب» لم يأتوا من عائلات تعانى الفقر والعوز وهناك أدلة واضحة على أن دوافعهم
نبعت من اعتقاد أيديولوجى أصيل مدعوم بشواهد دينية بأنهم فى جانب الصواب.
ربما تكمن الإجابة فى زاوية أخرى. بشكل عام تعتمد
الدراسات الهندسية على منطق محكم لا يعرف سوى الخطأ والصواب. هناك إجابات صحيحة وحيدة
والمسألة الواحدة قد لا تحتمل أكثر من إجابة. المسألة الهندسية لا تعرف الآراء ولا
تعرف التعدد، وإنما تعرف الصح والخطا، وهو ما يناسب عقلية متطرف لا يعرف سوى الحق والباطل،
الكفر والإيمان، الجنة والنار، الثواب والعقاب.
الفكر الهندسى الجامد يدعم هذه التصورات المخلة
عن الصواب والحق المطلق وحيازة الحقيقة وامتلاكها. ويتناقض هذا الفكر بشكل جذرى مع
فكر التنوع المرتبط بدراسات العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية. الفلسفة وعلوم
الاجتماع والنفس والتاريخ لا تعرف الصواب والخطأ بقدر ما تعرض وتبحث فى التنوع والاختلاف.
وتتفاقم المشكلة عندما يدعم الخطاب السياسى والإعلامى
والحوار المجتمعى ذلك المنطق الأحادى. فيسود الحديث عن الشر وأهله والخير وأصحابه دون
فهم لظروف أو دوافع أو منطلقات.
وربما يكون جزءا من الحل لمشكلة الإرهاب هو الوعى
بخطورة نشر منطق الحقيقة والضلال فى الخطاب السياسى والإعلامى، وإدراك أهمية تطوير
المناهج الجامعية لتؤهل الخريجين للحياة بتنوعاتها، ولفهم البشر على اختلافهم وتعدد
مشاربهم وعقائدهم وأفكارهم، ولإدراك الحدود الضيقة لمنطق دار الحق ودار الباطل، ولفكرة
قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار.
نقلًا عن جريدة الشروق