رئيس التحرير
خالد مهران

بريماكوف الذى لا تعرفه

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي


عندما صعد «يفجينى بريماكوف» إلى رئاسة الحكومة الروسية فى سبتمبر (١٩٩٨) بدا كأقوى مرشح محتمل لخلافة «بوريس يلتسين» على مقعد الرجل الأول فى الكرملين.
كان «يلتسين» يترنح وحياته السياسية توشك على الغروب.
أحد الأسباب الجوهرية فى تزكية «بريماكوف» لمنصب الرجل الأول خلفيته كرئيس للاستخبارات الروسية فى بلد تتحلل قوته وعناصر تماسكه.
كان «يورى أندربوف» أول من صعد بهذه الصفة، أعطى إشارة تغيير فى بنية السلطة بعد سنوات طويلة من جمود سلفه «ليونيد برجينيف»، لكنه رحل بعد أقل من سنتين.
وكان «بريماكوف» هو الرجل الثانى المحتمل، الذى يصعد بهذه الصفة، لكن «يلتسين» أطاحه خشية قوة شخصيته وراهن على رجل ثالث أكثر شبابا وطموحا وغموضا من نفس المدرسة هو «فلاديمير بوتين».
«بوتين» تأثر بـ«بريماكوف» بذات قدر تأثر الأخير بـ«أندربوف».
لم تكن مصادفة احتفاء «بوتين» بذكرى «بريماكوف»، ربما أكثر من أى زعيم سوفييتى سابق.
مع صعود «بريماكوف» شاعت قصص وحكايات عن صداقاته بالقاهرة.
وكانت مادة صحفية رائجة ومثيرة للاهتمام العام.
رغم ذلك لم يحدث أن فكر أحد فى توظيف صداقاته الحميمة مع عدد من كبار الصحفيين المصريين لصالح تطوير المواقف الروسية تجاه القضايا العربية الملحة والضاغطة.. أو على الأقل لاستكشاف: «ماذا يحدث بالضبط فى الكرملين؟».. أو «ما حدود التغيير الممكن؟».
القصص الإنسانية لها ــ باليقين ــ جاذبيتها المهنية.. فمن لا يريد أن يقرأ عن حياة الرجل القوى الصاعد فى روسيا أثناء إقامته الطويلة بالقاهرة، أو جلساته ومحاوراته فى مقاهى حى الحسين.
الأهم مما هو شخصى وإنسانى الإطلال على تفكيره، أو كيف سوف يتصرف فى الملفات التى تخصنا وتدخل فى صميم مصالحنا الاستراتيجية.
لم يحدث شىء من ذلك بالاهتمام الذى يستحقه.
فى تلك اللحظة كان مراسل صحيفة «برافدا» السابق فى العاصمة المصرية رجلا غير عادى فى ظروف غير عادية وفى دولة، مهما تعاظمت عليها عواصف الإنهاك السياسى والاقتصادى، غير عادية.
بنوع من الاختزال انتمى «بريماكوف» فى جانب مهم من تجربته الإنسانية والسياسية إلى تفاعلات ومعارك ثورة «يوليو».
كانت أيامه فى القاهرة ــ كما كتب فى مذكراته ــ أجمل سنوات العمر.
عاين التجربة عن قرب وكتب عنها واحدا من أهم الكتب السوفييتية ذات الاعتبار مع زميله «إيجور بيليايف».
كلاهما حمل درجة الدكتوراه واقترب من المثقفين والصحفيين والسياسيين، بمن فيهم الرئيس «عبدالناصر» نفسه، إلى حدود تسمح لهما ببناء تصور موضوعى عن تجربة «يوليو».. بكل زخمها وتناقضاتها.. إنجازاتها وصراعاتها.
فى كلمة واحدة لخص التجربة: «الكرامة».
بوصف «بريماكوف» كان «عبدالناصر» إنسانا ذا مزاج حار يسهل استثارته إذا لمس أحد كرامته الشخصية أو السياسية.
وبروايته حدث أن اشتكى أثناء مأدبة عشاء عام (١٩٥٧) السفير الأمريكى فى القاهرة «بايروود» للرئيس «عبدالناصر» أن بعض المصريين ضربوا أمريكيا فى منطقة قناة السويس.
قال «عبدالناصر»: «إن هذا الأمريكى كان يتصرف مع الأسف، بحيث اعتقد أبناء الشعب أنه جاسوس».
أجاب «بايروود» ــ منفعلا: «أنه يأسف على اعتقاده السابق بأنه موجود فى بلاد متحضرة».
غادر «عبدالناصر» قاعة الطعام على الفور، ولم تصلح كلمات الاعتذار فى إرجاعه إليها.
لم يعن ذلك ــ وفق «بريماكوف» ــ أن عواطفه تتحكم فيه، فقد كان يتخذ قراراته السياسية بعد مقارنات عميقة وتحليل للتجارب ودراسة الإمكانات والفرص.
بتوصيف ثانٍ: كان تكتيكيا بارعا فى السياسة.. لكنه لم يكن أبدا ذرائعيا.
وبتوصيف ثالث: فإنه سياسى حاسم وباسل بدرجة كافية، غير أنه كان يفضل تنفيذ بعض ضرباته الكبرى بالتدريج ــ إذا كان يعقب شوط التأرجح يسارا تأرجح آخر إلى اليمين.
هذا يتعلق بالخطوات التكتيكية لا الاستراتيجية.
كان مثل هذا التكتيك يضعف بدرجة ما القوى المضادة للثورة، بل كثيرا ما كان يجهز عليها تماما، غير أنه حمل أيضا فيما يرى «بريماكوف» أخطارا جمة.. حتى على «عبدالناصر» نفسه!
ثمة نوع من الافتتان بـ«عبدالناصر» وتجربته عن رؤية واقتراب ودراسة وحوارات مفتوحة مع صحفيين مطلعين ومؤثرين مثل «محمد حسنين هيكل» و«محمد سيد أحمد» و«محمد عودة» و«لطفى الخولى».
وفق «بريماكوف» فإن «عبدالناصر» لم يكن ينظر إلى السلطة كمغنم له، أو لعائلته ــ فهو ابن موظف صغير، عاش فى منزل متواضع، ولم تكن لديه حسابات جارية فى البنوك الأجنبية، ولم يعلق بثوبه غبار.. عمل دون إجازات بواقع ثمانى عشرة ساعة فى اليوم.
طوال مذكرات «بريماكوف» تشعر أنك أمام كاتب يلتزم بالتوجهات الرئيسية العامة للقيادة السوفييتية فى ذلك الوقت، غير أن حماسه فى الرد على خصوم «يوليو» وتفنيد بعض أطروحات نقادها الغربيين مثل «فاتيكوتس»، لا يمكن أن يكون عملا وظيفيا صدرت به تعليمات.
انطوت مذكرات «بريماكوف» على مقولتين رئيسيتين، كان لهما فى السبعينيات وقع وأثر فى الجدل السياسى الدائر والساخن وقتها.
الأولى ــ أن تنظيم «الضباط الأحرار» لم يسرق الثورة من الحركات الشيوعية الضعيفة المفتتة، والعاجزة عن التطور الفكرى.
كان من رأى «بريماكوف» أن تنظيم «الضباط الأحرار» نقيض للمؤسسة العسكرية التقليدية وضدها، وأنه سليل إرث الوطنية المصرية وثورة «أحمد عرابى» ضد تزايد دور الأجانب وتسلط الخديو.
الذين قرأوا كتاب «محمد عودة» «ميلاد ثورة» عن تاريخ ودور العسكرية الوطنية المصرية فى ثورات وحروب مصر لا بد أن يلاحظوا مدى تأثيره فى رؤية «بريماكوف».
والثانية ــ توصيفه للتحولات الاجتماعية التى جرت فى مصر الستينيات بأنها تطور لا رأسمالى أدى إلى تقويض السيطرة السياسية والاقتصادية الأجنبية فى مصر، وأن وصف هذه التحولات بأنها «رأسمالية دولة»، كما دأب عدد كبير من الشيوعيين المصريين ليس أكثر من نزق أيديولوجى.
«عبدالناصر» اشتراكى حقيقى، ارتقى وعيه فى قلب المعركة.. ومن مرحلة إلى أخرى ــ كما رآه «بريماكوف».
صاغ فكرة «عبدالناصر» المركزية على النحو التالى: «مصر بلد مفتوح وإسرائيل تهديد وجودى يمكن أن تطعن به من كل جانب، وأنه لا يمكنها أن تلعب دورها فى المنطقة أو فى العالم دون أن تحفظ أمنها ذاته، أو دون أن يكون لديها جيش قوى».
وفق هذه الفكرة المركزية اتجه إلى كسر احتكار السلاح الغربى وبناء علاقة قوية مع الاتحاد السوفييتى، ورفض أن تدخل مصر «الحزام الجنوبى»، الذى كان يأمل وزير خارجية الولايات المتحدة فى خمسينيات القرن الماضى «جون فوستر دلاس» فى بنائه على الحدود الجنوبية للاتحاد السوفييتى ــ بصياغة الرجل الذى لاح تحت قباب الكرملين لوقت قصير‪كخليفة محتمل لمقاديره .

نقلًا عن «الشروق»