رئيس التحرير
خالد مهران

كهربا

عمر طاهر
عمر طاهر


فى «هيئة الكتاب»، طلب الموظف ثلاث نسخ من الرقم القومى ليمنحنى خصم الصحفيين، الخصم مُغْرٍ، ويستحق عبور الشارع للكشك الصغير، الذى يقف صاحبه خلف ماكينة تصوير المستندات، كانت هناك امرأة خمسينية تشكو له من الخناقة، التى خاضتها فى مقام «ستنا السيدة» زينب لأنهم أوقفوا تشغيل المراوح توفيرًا لنفقات الكهرباء، صرخت فيهم: «هنِعْيا حرام عليكم شغّلوها علشان النفَس»، قال صاحب الكشك إن الإمام طلب منهم عقب صلاة الجمعة الماضية التبرع لسداد فواتير كهرباء الجامع، سألته «واتبرعت؟»، فقال لها: «فيه ناس دفعت»، ذكَّرنى الحوار بـ«قريبة» تذهب بابنها إلى تمرين سباحة فى أحد النوادى الكبيرة، حيث اشتكت من أنهم يطفئون معظم أنوار المكان ليلًا تقليلًا للنفقات بشكل يجعل ظلامه الشاسع مخيفًا، وأن النادى خلاص ماينفعش يتراح بالليل.

تذكرت الفخر الرسمى المتكرر بحل أزمة الكهرباء نهائيًا، واعتبار الأمر إنجازًا عظيمًا يُلِحّ الإعلام عليه فى كل فاصل، وحاولت أن أُدقِّق فى الإنجاز، فالكهرباء لا تنقطع بالفعل، لكن ما المقابل؟، المقابل يتحمل الناس معظمه، وهو إنجازهم، ولا تتحمل منه الحكومة شيئًا سوى «مقاولة التنفيذ» ودعم يتقلص بعنف وبسرعة، إنجاز نظريًا مفيد، وعلى أرض الواقع مؤذٍ، من ناحية فواتير تُضْلِع الجميع، من أصحاب الشقق لأئمة المساجد لأصحاب النوادى، كتلة عظيمة من الدخل ينخلع معها القلب، ومن ناحية أخرى لجأ كثيرون إلى تقليل الإضاءة تقليلًا للفواتير، فسَرَت فى الأجواء كآبة ما، يمكنك أن تلمحها فى البيوت، التى تطل من بعض نوافذها ليلًا إضاءة بيضاء مُوفِّرة باهتة ومُقْبِضة، إنجاز تلتهمنا آثاره الجانبية، أقلها أن الناس أصبحت تطارد «الضلمة» بمحض إرادتها بحثًا عن هدنة من الالتزامات.

الحكومة لديها مهارة عالية فى أنها «تتقل إيدها على الناس»، والنوايا حسنة لا نُشكِّك فيها، لكن ما ينتج عنها من أذى يتم دفنه تحت السجادة، ونظرية «إحنا بنبنى لمستقبل أولادنا» مردود عليها بـ«طيب وإحنا أولادنا أصلًا هنوصّلهم إزاى لحد المستقبل ده؟»، مستقبلهم يبدأ الآن من حاضر أهاليهم، وكيف أصنع مستقبلًا لأطفال يتشكلون فى ظروف صعبة، ويرون بأعينهم أثر الأزمة وأخلاقياتها التى استقرت فى حياتنا اليومية وقلق الأهل والحرمان وجلسات الأب والأم للمفاضلة بين الالتزامات لاختيار ما سيتم دفعه وما سيتم تأجيله، بخلاف ما سيفهمونه بالوقت عن الحريات والإعلام والمزايدات وكل الجنون الذى نعيشه، ظروف نمر بها جميعًا لا تُعين الأهل على أفضل تنشئة يحلمون بها، و«ماحدش هيشيل هم أولادنا أكتر مننا»، والسعى إلى المستقبل بدون دراسة الآثار الجانبية المُهْلِكة لكل ما يحدث سيجعلك فى النهاية تصل إلى مستقبل يبرق، لكن بشخصيات باهتة.

عمل حساب الناس هو أكثر شىء يجعل العالم يحكى ويتحاكى عنّا، والكتب التى اشتريتها كان على رأسها مذكرات الفنان العظيم سيد مكاوى، وهو القائل: «قبل ما ترمينى فى بحورك.. مش كنت تعلِّمنى العوم؟!».

نقلا عن "المصري اليوم"